غابت الجزائر عن الاجتماع الأمني الكبير، والذي عُقد في العاصمة الفرنسية باريس، الأربعاء الماضي، لتعزيز آليات محاربة المنظمات الإرهابية في منطقة الساحل الافريقي. الاجتماع حضره ـ إلى جانب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، رؤساء مجموعة الدول التي تعمل تحت رعايتها (مالي، النيجر، موريتانيا، تشاد، وبوركينا فاسو) ـ والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، وممثلون عن المنظمات الإقليمية، والدولية، والولايات المتحدة، وشركاء آخرون.
هذا الغياب، لم يمر من دون طرح تساؤلات من بعض الأطراف المشاركة، ومن وسائل الإعلام العالمية ــ خاصّةً الأوروبية منها والعربية. كيف تغيب الجزائر عن حشدٍ أمني كبير يعالج مسائل تقع في محيطها القريب؟ وكيف يخطَط لعمل عسكري يخص دولاً تجمعها بها حدود بطول 2800 كلم؟ وكيف تغيب، والموضوع يتعلق بمحاربة الإرهاب، والجزائر لطالما اعتبرت نفسها في طليعة القوى التي تحاربه، بل أوّل من حاربه منذ مطلع تسعينيات العقد الماضي.
هذه التساؤلات لم تجب عنها الجزائر، لكن التصريحات والتقارير الفرنسية اختصرت الموقف بـ«عدم رغبتها لعب دور شرطي الحدود». هذا الكلام، فيه كثير من الحقيقة، وقد يكون هو الردّ الحرفي المختصر الذي تلقّاه ماكرون من السلطات الجزائرية، حين دعاها للمشاركة خلال زيارته الاستعراضية القصيرة في السادس من الشهر الجاري، وهو ليس جواباً كامل الأركان بقدر ما هو مبرّرٌ لصد الدعوة. العامل الرئيس للغياب يكمن في كون طبيعة الاجتماع تتعارض مع طبيعة القوات المسلحة الجزائرية، ومع العقيدة الجزائرية في محاربة الإرهاب في المنطقة. فباريس، وباقي المشاركين يرون في الجزائر النموذج المثالي للشراكة في مجال محاربة الإرهاب، لامتلاكها جيشاً قادراً على الاضطلاع بدورٍ ميداني كبير، نظراً لقدراته القتالية. فهو يحارب منذ ربع قرن، جماعات مسلحة تتطابق عقيدتها وطرق عملها، مع تلك المطلوب محاربتها في منطقة الساحل، ويمتلك معدّاتٍ ضخمة، وطرق عمل حديثة ومبتكرة في العمل في الصحراء، ليلاً ونهاراً، إضافةً إلى مراقبة مسالكها، وبناء الكمائن. وسبق للقوات المسلحة الجزائرية أن عملت قبل سنوات مع بعض جيوش، وهذا الدور تمليه الجغرافيا، نظراً إلى قرب ساحة العمليات التي يعمل بها هذا الجيش، والتي يفترض أن يكون فيها شريكاً لغيره.
في المقابل، فإن الجزائر ترى أنّه من غير المجدي حضور اجتماعٍ على هذا المستوى، وبهذه الأهمية، من دون أن يُقدّم فيه التزامات وتعهدات بالمشاركة في العمليات الحربية والتمويل. فالدول المشاركة دول استعمارية سابقة، حافظت على قوانينها الخاصّة بالتدخّل خارج حدودها، وإمّا دول لا تسيّر قواتها المسلحة وفق قوانين مرجعية. إذاً، الاجتماع مهم جدّاً في سياق النظرة الفرنسية والغربية عموماً لمكافحة الإرهاب، كونه إطاراً لتحقيق أمرين مهمين على الأقل؛ الأوّل حشد القوات، والثاني توفير التمويل، وهذا لا يتماشى مع عقيدة الجيش الجزائري.

لا يريد الجيش الجزائري أن تكون بلاده امتداداً لساحة قتال دولية

في المسائل الأمنية الدقيقة، وحين يتّخذ الجيش قراراً تتبعه كل المؤسسات، بمن في ذلك رئيس الجمهورية (القائد الأعلى لجميع القوات المسلحة). هذه المرّة أيضاً، قرّر الجيش أن تغيب الجزائر عن الاجتماع، فغابت وسبق أن غابت عن «لقاء باماكو» عاصمة مالي، في شهر تموز الماضي، والذي أسّس لقيام حلف من خمس دول أفريقية تحت رعاية فرنسية لمحاربة الإرهاب في الساحل.
وإن رأت بعض الأطراف ــ خاصّةً فرنسا ــ أن عدم حضور الجزائر سلوك لا ينسجم مع وضعها كبلد محارب منظمات مسلحة متطرفة في الداخل، فثمة مبررات قانونية وسياسية وأمنية للغياب. من الناحية السياسية والأمنية، لا يريد الجيش الجزائري أن تكون بلاده امتداداً لساحة قتال دولية. ومشاركته في العمليات الحربية إلى جانب جيوش من خارج المنطقة، يجعل من كل الصحراء الكبرى التي يقع معظمها في الجزائر ساحةً واحدةً تجوبها قوات متعددة الجنسيات. ودخول قوات أجنبية، تحت أي مبرر، كان مسألة حساسة جدّاً، ولا تجد من يقبلها في الظرف الراهن على الأقل.
ما تردد في «اجتماع باريس» نفسه من أن فلول تنظيمي «القاعدة» و«داعش» ستزحف إلى أفريقيا بعد خسارتها في سوريا والعراق، تقوله السلطات الجزائرية والإعلام الجزائري منذ مدّة. وبناءً عليه، عزّزت قوات الجيش والدرك تواجدها في جنوب البلاد، بعشرات آلاف الجنود والضباط، بينهم عدد كبير من أبناء المنطقة، والذين درّبوا خصيصاً لحرب الصحراء. كذلك، نُقلت معدات كبيرة، وبُنيت مطارات عسكرية جديدة، ومهابط للمروحيات. وزيد من عدد الدوريات الجوية والبريّة، على طول الحدود. وليس هذا الجانب السياسي وحده الذي يحكم حركة الجيش، ثمّة أيضاً القوانين التي تسيّره، وهي قديمة جدّاً، تصنّفه في خانة جيوش الدفاع، وتمنع عليه الدخول في حروب خارج حدوده. وقد سبق له أن شارك (استثناء) في حروب خارجية ثلاث مرات، في تاريخه، اثنتان منها في إطار الحروب العربية ــ الإسرائيلية، والثالثة عام 1968، حين تدخلت الجزائر بقوّة مهمة قادها العقيد سليمان هوفمان، في الحرب الأهلية النيجيرية، إلى جانب الحكومة الاتحادية ضد انفصاليي مقاطعة بيافرا الغنية بالنفط. كانت فرنسا في وقتها مع إسرائيل، أهم داعمي الانفصاليين. وقد ساهم الجيش الجزائر في سحق التمرّد، وإعادة الوحدة لنيجيريا، وهو سرّ الصداقة المتينة بين البلدين على مر العقود.
انتشار المجموعات الإرهابية في الصحراء الكبرى، وبناؤها علاقات مع مجموعات في دول الجوار لا سيما «بوكو حرام» و«جماعة التوحيد والجهاد في أفريقيا الغربية»، ثم اندلاع أحداث «الربيع العربي»، دفعت إلى ارتفاع الأصوات الداعية إلى ممارسة الجزائر دورها كدولة إقليمية كبيرة، وإلى تغيير القوانين بما يجعل حركة الجيش أكثر مرونة، تسمح له بضربات استباقية تحمي البلد، وتمنع تدفق السلاح وتنقّل المسلحين والمهربين عبر الحدود. وكان قانون الجيش فعلاً على وشك التغيير مع تأسيس «قيادة الأركان المشتركة لجيوش الساحل»، بمبادرة من الجزائر عام 2009، والتي تضم في عضويتها أيضاً مالي، والنيجر، وموريتانيا. كان الغرض منها العمل المشترك لمحاربة المنظمات الإرهابية، وتطهير المنطقة منها، وأهمها «تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي»، ومنع تشكيل حلف إرهابي كبير يهدد المنطقة. عقد أكثر من 20 اجتماعاً تنسيقياً لقيادات أركان الجيش، والدرك، والمخابرات، إلى جانب إجراء تدريباتٍ مشتركة شاركت فيها القوات البرية والجويّة. سارعت الولايات المتحدة وبريطانيا لتشجيع هذه الخطوة، وقدمتا دعمهما لموقف الجزائر القاضي بحل كل المسائل المطروحة محليّاً، دون تدخل قوات خارجية، ووعدتا بتقديم كل المساعدات التقنية واللوجيستية التي تطلبها الدول المتحالفة.
وإلى جانب «قيادة الأركان المشتركة» تأسست «مجموعة دول الميدان»، والتي تضم البلدان ذاتها، لكن في شكلها المدني لغرض التنمية المشتركة، وتوفير سبل العيش للسكان بما يغنيهم عن اللجوء إلى الهجرة غير الشرعية. كانت الأمور تسير بشكل طبيعي نحو تحكّم دول المنطقة، في تسيير شؤونها بما في ذلك محاربة الإرهاب، حتى حدث أمر لم يستوعبه الكثيرون، إلى الآن، فانقلب الوضع رأساً على عقب، بعد زيارة الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند إلى الجزائر في كانون الأوّل عام 2012. وتحوّل مصير المنطقة الساحل إلى يد فرنسا، كما لو أن أحداً سلمها مفتاحه، وانكفأ دور الجزائر إلى الداخل مكتفيةً بتعزيز أمنها الداخلي. وصارت «القيادة المشتركة لجيوش الساحل»، ومجموعة دول الميدان مجرد أرشيف. ولم يعد الحديث عن «دور القوّة الإقليمية» وارداً إلا كنُكتة على مواقع التواصل الاجتماعي.
* كاتب جزائري