قلتُ في مقالَين سابقين («الأخبار»، 11 و31 تمّوز 2017) إنّ العناية الصحية الجيِّدة هي حقّ المواطن ومسؤولية الدولة والجهاز الطبي. وبيَّنتُ أنّ هناك هدراً كبيراً، وأنّ هذا الهدر لا يُعالَج إلا بالالتزامِ بأبعاد العناية الصحية الجيدة؛ الأَمر الذي يتطلَّبُ نظاماً تتّبعه الأممُ الراقية في مسيرتها، وهو الاعتمادُ على المعلومات الإلكترونية IT. Information Technology، لأنّ جمعَ المعلومات، في المجال الصحي، أمرٌ غايةٌ في الأهميّة.
وإذا نظرنا إلى الوضع الصحي في لبنان، فإننا لا نرى أيَّ جهاز، حكومي أو نقابي، يهتمّ بجمع المعلومات عن الأوضاع الصحية للمواطنين اللبنانيين حتى يتسنى له أن يقوم بتحليل ودراسة هذه المعلومات، والإتيان ببرنامج فعّال يعالج المعضلات الموجودة في الجهاز الصحي، وهي كثيرة. لا، بل ليس هناك أيُّ مبادرة قيادية لبدء عملٍ كهذا. فالرغبة في الجهاز الحكومي الفاسد والمترهِّل مفقودة، والرؤيا النابعة من صُلبِ المعاناة، ومن الفكر القيادي، ومن الالتزام بقضايا المجتمع، ليست متوفرة في الجهاز الطبي حتى الآن، لا على أساسٍ فردي، ولا على أساس نقابي، مع أن هذا الجهاز يحتوي على كثيرٍ من الإمكانيات الطبية الأكاديمية العالية والشفّافة في عملها، إلا أنها مبعثرة وغير منظمة.
وهكذا بقيَت الأمور على ما هي عليه، ولم تتغيّرْ خلال عدّة عقودٍ من السنين. ثقافة المحافظة على الأمر الواقع هي التي تسودُ في القطاع الصحي، كما هي سائدة في قطاعات المجتمع الأخرى. المحافظة على الحالة الراهنة هي الركون بحدّ ذاته. وبالركون إلى هذا الوضع كهدف، يتولد شعورٌ بالاكتفاء والاستراحة غالباً ما يؤدّي إلى الوقوع في الجمود، لا بل إلى التقهقر. هذا المنطق الاستسلامي الذي يُبقي الأشياء على حالها هو عكس ما قاله الفيلسوف الإغريقي هرقليطس في القرن الخامس قبل الميلاد من أن «الأشياء تغيُّرٌ مُتَّصِل،» و«أنتَ لا تنزلُ النهرَ الواحدَ مرّتين، فإنَّ مياهاً جديدة تجري من حولك أبداً». فمن سيأخذ العبرة؟
إن الطبقة السياسية الفاسدة لا تجد حافزاً لدراسة الأوضاع الصحية للمواطن، وليس عندها روح المسؤولية - كعادتها في كل القضايا - في المحافظة على حقوق المواطن، في جهاز صحيٍّ مفتَّت، يفتقرُ إلى التناسق بين القطاع النقابي، والقطاع الحكومي، وقطاع المشافي. فالقطاع الحكومي طائفي وعشائري في أدائه. وجهدُ قطاع المشافي ينصَبُّ في توفير أحدثِ الأدوات والآلات الصحية من أجل زيادة الدخل، وليس من أجل زيادة فعالية العناية الصحية اللازمة للمواطن، ورفع مستواها.
هناك دوافع اقتصادية وسياسية واجتماعية إنسانية تُوجِبُ على العاملين في الرعاية الصحية العامة الدأْبَ الدائم على تحسين النتائج النهائية. وهذا لا يتحقق إلا بقَدْرٍ كبيرٍ من المسؤولية تجاه هذا الهدف؛ وبالاعتماد على الاكتشافات الطبية التي أصبحت مسلَّماتٍ وحقائق علمية، والتي نشأتْ من بحوثٍ علمية واسعة في مجال العناية الطبية Clinical trials؛ وبالعمل الدؤوب أيضاً على جمع المعلومات وتدوينها في إضباراتٍ إلكترونية، وربطها بشبكات الاتّصال الإلكترونية، وشبكات المعلومات المشتركة Exchange Information Network، حتى تتوافر للقائمين بالعناية الصحية متابعة هؤلاء المرضى أينما حلّوا، فلا يكون هناك حاجةٌ لتكرار الفحوصات المكلفة التي أجريت لهم، وحتى يتم دراسة وتقويم أداء العمل الصحي ومناقشة نتائجه النهائية، سواء كانت جيدة فيتمُّ تبنّيها، أو رديئة فيُعمَد إلى تلافي تكرارها في المستقبل.
وإذا لم تأخذ نخبة الأطباء، والنخبة في إدارة المستشفيات الأكاديمية، والنخبة القيادية في القطاع التمريضي، المبادرةَ القيادية في هذا المجال، فسيظل الأمر الواقع سارياً وبدون معالجة. كما إنّ من مسؤولية الجامعات اللبنانية إعدادَ طلابها، في كليات الطب، لمواجهة هذه الآفاق الجديدة في العناية الطبية، والوقوف على متطلباتها الأكاديمية.
في أوائل التسعينيّات من القرن الماضي، ظهر ما يسمى Business Intelligence Systems؛ وهو مجموعة البرامج الإلكترونية Software Applications التي تخزِّنُ المعلومات الأولية، وتنسّقها، وتستنطق ما يتلازم معها من معلومات مخزونة سابقاً، ثم تحلّلُ كلَّ هذا لتعرضه في تقرير معرفي نهائي يكون منطلقاً لآفاق جديدة في التخطيط والبحث والممارسة المهنية؛ الأمر الذي يزيد المعرفة ويخدم المجتمع بكُلِّيَّته وبأفراده.
نعم. جمع المعلومات يُوَلِّدُ معرفة تُختزن وتوظّفُ من أجل إيجاد الحلول والتخطيط للمستقبل. وجمع المعلومات هو اليوم هاجسُ الأمم الراقية. والوسيلة إلى هذا كلِّه هي الإضبارة الصحية الإلكترونية Electronic Medical Record. فالإضبارة الإلكترونية هي الآن ضرورة تفرضها كل الأمم المتحضرة، والمعنية بجمع المعلومات الصحية القيّمة، لتخزينها واستعمالها كمعرفة مكتنزة للدولة وللجهاز الاستشفائي وللمجتمع في رسم معالم الطريق نحو الجودة. والإضبارة الإلكترونية لم تفرضْ وجودَها وتُثبِتْ فعاليتها فحسب، بل هي الآن ضرورةٌ وتوظيفٌ في المستقبل سيكون له مردودٌ ثمينٌ ذو فائدة جليلة للأجيال الآتية، حتى إن العاملين والخبراء في هذا الحقل يعتبرونها ذات قيمةٍ كقيمةِ أيِّ وليدٍ جديد يحتاج إلى دعمٍ وعناية ورعاية، وهو يكبر ويتطور، لإعداده لمتطلبات المستقبل. وحديثاً نشرت صحيفة «الواشنطون بوست» مَنْظَريَّة Scenario لما ستجلبه الأبحاث، خلال السنوات العشر المقبلة، على الإضبارة الصحية الإلكترونية Electronic Medical Record، من ازدياد فعالية العناية الصحية، وذلك بفضل المقتنيات والمحمولات Wearables (الهاتف الخلوي، الساعة، قلادة العنق، الخ...). وأعطت، مثالاً على ذلك، حالةَ مريضٍ مصابٍ بالصرع أو داء النقطة Epilepsy تدهمُه نوبة، فيقع على الأرض وهو يتخبط، فتتحسّس ساعتُه الإلكترونية وضعيةَ جسمه وتحركاته، فينطلقُ منها نداءٌ إلى مركز الإسعاف، فيظهرُ على الشاشة موقعُ المريض. فتتحرك سيارة الإسعاف، تلقائياً، نحو الموقع لتعطي الإسعافات الأولية تحت إشراف طبيب مناوب، ثم تنقله إلى المستشفى حيث يتلقاه الفريق المعالج، فيستنطقُ ساعتَه التي تختزنُ إضبارته الصحية، ويحصل على كل المعلومات التي تساعده على المعالجة الآنية والفعالة. وقد كشفت، حديثاً، المحطة الفضائية الأميركية CNBC عن سرٍّ تخفيه شركة Amazon الإلكترونية تجنُّباً للمزاحمة في أبحاثها من قِبَل الشركات الأخرى. فقد خصَّصَتْ فريقاً مهمته الوحيدة البحث عن سُبُلٍ جديدة لتطوير الإضبارة الإلكترونية وتبادل المعلومات بين المراكز الصحية Telehealth. وإلى أن تكتمل هذه الأبحاث، فقد عمدت معظم المستشفيات، في نيويورك وولاية نيوجرسي، إلى تبني الإضبارة الإلكترونية - نظام Epic.
جمعُ المعلومات يدعمُ المعرفة. وتوظيفُ هذه المعرفة في العناية الصحية يحتاج، لا إلى إمكانيات مادية فحسب، بل إلى إمكانياتٍ قيادية.
الإمكانيات المالية هي من واجب الدولة في السعي لتطوير وتحسين العناية الصحية، وذلك من ضمن واجبها العام في خدمة المواطن والمجتمع. وتوفير هذه المخصَّصات المالية في ذلك المشروع هو أيضاً في مصلحة الدولة، لأن مردوده هائل في وقف الهدر وتجنيب الخزينة كثيراً من النفقات. ثم إنّ التوظيف في خلقٍ مجتمعٍ صحي يوفر أموالاً إضافية للخزينة.
أما الإمكانيات القيادية فهي، في رأيي، موجودةٌ في القطاع الطبي الأكاديمي، وفي إدارة المستشفيات الجامعية، وحتى في قطاع التمريض، والكليات الطبية. ولكي لا تُترَك الأمور في أيدي الجهاز الحكومي الطائفي الفاسد، فإنه واجبٌ على هذه القطاعات أن تبادر إلى الأخذ بدورٍ قيادي في هذه المهمة قبل فوات الأوان؛ فهي مسؤولية وطنية ومهنية.
والواقع أنّ هناك صفاتٍ متعدّدة لا بدّ من توافرها في أي قياديٍ، في أي مجتمع من المجتمعات، حتى يكون هناك تقدم وتطور وتجديد في أي قطاع من القطاعات التقليدية الأربعة: الصناعة، التجارة، الزراعة والثقافة. وكذلك في القطاعين الجديدين؛ أعني قطاع العناية الصحية، وقطاع التقنية الحديثة Information Technology . تلك الصفات هي:
1ــ الرؤيا أو الاستشراف أو البصيرة Vision التي هي صفة العقول الخبيرة، المثقفة، القيادية، والرائدة في أي قطاع من القطاعات المذكورة. فالرؤيا، بحسب قول أدونيس: «إشراقٌ وكشف»... «إنها ضربةٌ تزيح كل جاهز، أو هي نظرة تخترق الواقع إلى ما وراءه،» و«تكشف عما يعتبره العقل محالاً»... «الرؤيا تتجاوز الزمان والمكان... الرؤيا إبداع.» («الثابت والمتحوِّل»، ص: 169). وينقل أدونيس عن ابن خلدون قولَه إنّ «الرؤيا مطالعة النفس لمحةً من صور الواقعات، فتقتبسُ بها علمَ ما تتشوق إليه من الأمور المستقبلية.» وفي شَرْع جبران خليل جبران أنّ الرؤيا هي «العين الثالثة».

الطبقة السياسية الفاسدة لا تجد حافزاً لدراسة الأوضاع الصحية للمواطن



2 ــ الاختراع Invention، وقد يكون آلة، وقد يكون مشروعاً، وقد يكون خطّةً. وبفضل أيٍ منها، تتحول الرؤيا إلى حقيقة. هذا، إذا توافرت لها الإمكانيات المادية والعلمية.
3 ــ الابتكارInnovation، وهو القدرة على إيجاد وظيفة للاختراع، تجعله مفيداً في تحقيق حاجات الإنسان الفرد، وحاجات المجتمع ككل، وذلك في السعي إلى التطور والترقّي. وفي الحقيقة، أصبح هذا الجهد، أيضاً، جماعياً. فقد أُنشِئتْ مراكز ومؤسسات للابتكار، هدَفُها إيجاد جسورٍ بين مختلف مجالس الأمناء، التي يختصّ كلُّ واحدٍ منها في حقلٍ من حقول الأبحاث حول العناية الصحية، والتي تهدف إلى إيجاد وظائف لاكتشافاتها واختراعاتها ومشاريعها، تكون قادرة على خدمة المجتمع بتحسين العناية الصحية. فالعناية الصحية، في الحالات الطارئة أو المزمنة، لا تختلف من مكان إلى آخر، ومن طبيب إلى آخر، ومن مؤسسة إلى أخرى. وتُقَدَّر كمية الهدر في أية مؤسسة صحية كبيرة في العالم بـ20 ـ 30 مليون دولار سنوياً بسبب التباين بين الأطباء في معالجة الأمراض؛ وهذا أمرٌ شائع في لبنان. فالفحوصات الآلية والمخبرية تتكرر من طبيبٍ إلى طبيب، ومن مشفى إلى آخر. فعلى العناية الصحية أن تكون فعَّالة، وبأقلّ كلفة. لهذا ولذاك، من الضروري أن يقومَ بهذه المهمات فريقٌ من الأطباء ذو رؤيا قيادية منسجمة وموحدة. وفي هذا المسعى كله، فإنّ كسبَ ثقة المواطن مهمٌّ جداً من أجل نجاح تعبئته في مشروع الوقاية الصحية.
إنّ عملية الإسهام الحضاري تعتمد كلياً على مقدارِ توافُر هذه الصفات الثلاث في قطاعاته المتعددة. هذه الصفات متلازمة، ولا يمكن وجود الواحدة منها بلا وجود الثانية. وهي تأتي بالتسلسل نفسه الذي عرضناه.إن حياة الإنسان في تطور تصاعدي دائم. والقطاعات المجتمعية، بكل أنواعها، إذا لم تدرك هذا المنحى المتصاعد، تتخلّف، ثم تأفل. وهي لا يمكنها تجنُّبُ السقوط الكامل إلا إذا أُتيح لها فكرُ قياديٍّ يتحلّى بالبصيرة والابتكار المتجدد. وكم من شركات عاملة انطلقت في الماضي بشكلٍ تصاعدي، ثم تعرضت للركود بسبب فقدان الرؤيا والابتكار، وما لبثتْ أن أفلَستْ تدريجياً، وزالت.
ولعلّ أسطَعَ مثلٍ على ذلك ما حدث لشركة النَّسْخ Xerox:
اخترعَ علماؤها، في كاليفورنيا، الحاسوب الشخصي Personal computer، ولكنْ لم يكن عندهم الفكر الابتكاري لتوظيف هذا الاختبار في مجال يستفيد منه الإنسان أولاً، والمجتمع ثانياً. فاستمروا في صنع آلات النسخ، إلى أن جاء العبقري المغامر ستيف جابز Steve Jobs، ذو الأصول الشامية، في عام 1984، فأخذ الاختراع نفسه، وطوَّره، ووظَّفه في شتى المجالات التي تخدم المجتمع. فكان الحاسوب الشخصي «ماكنتوش» Macintosh الذي صمّمته شركة «آبل» Apple، وكانت الألواح الموسيقية الإلكترونية iPad music عام 2000، والهاتف النقال iPhone عام 2008 الذي طغى على مبيعات «بلاكبيري» Blackberry مكتسحاً أسواق الهاتف الخلوي النقال. ثم صمَّمت الشركة، حوالى عام 2009، الحاسوبَ النقال iPad tablet. كلُّ هذه المصنوعات الإلكترونية درَّتْ بلايين الدولارات على ستيف جوبز وشركة «آبل»، بينما كانت شركة Xerox تتعرض للأفول بسبب قِصَر نظر مدرائها، حتّى لقد أصبح من النادر أن يُسْمَع عنها شيء. وهكذا كان الأمرُ مع شركة كوداك Kodak التي أصرَّت على استعمال الأفلام في التصوير، فجاءت شركات التصوير الإلكترونية لتكتسح الأسواق، وتقضي عليها.
والقيادة في هذا العصر لا يمكن أن تكون فردية. القيادة يجب أن تكون شاملة ومتنوعة في الوقت نفسه: شاملة من حيث أن اختيارها يكون بلا تمييزٍ عرقي أو جنسي، أو حسبَ الوضع الاجتماعي والاقتصادي، أو حسب العمر وسوى ذلك من الأسباب؛ ومتنوعة من حيث شمولُها كلَّ الكفاءات المتوافرة في المجتمع، والمعنية بالعناية الصحية بالذات.
ولا بد للقياديين، في سعيهم لإيجاد الحلول، من المرور بثلاث مراحل:
1) دراسة الأرضية. 2) التوعية. 3) التعبئة.

1) دراسة الأرضية

سبيلها الأول والأخير هو جمع المعلومات. إن محاولة تصوير الأمور بأنها كاملة (وهي ليستْ كذلك) ستؤدي إلى التسليم بأَداءٍ في العمل لا يصل إلى أي مستوى من الجودة. لذلك، فمن واجب النخبة الفكرية الارتياب من الحالة الراهنة. وترسيخُ هذا الارتياب، الذي ما هو إلا موقف إيجابي ومبرَّر بسبب وضع العناية الصحية في لبنان، يحمل في طياته كثيراً من الأسئلة المُحِقّة التي تحتاج إلى أجوبة. الارتياب قلقٌ إيجابيّ عند قادة الفكر الغيورين على المصلحة العامة، يجعلهم غير قانعين بكل أداء راهن لا يحمل في حناياه أية إرادة في التغيير والتقدم. فلا بد من جمع المعلومات. فالمعلومات تزيد المعرفة. والمعرفة ضرورية للانتقال إلى المرحلة الثانية التي هي التوعية.

2) التوعية

ليست التوعية إلا حصيلة المعرفة. وإذا تزاوجت مع مهارة في التواصل، أصبحتْ حكمة. والقياديون مؤهلون لذلك. وهم ملمون بالمعايير المُتَّبعة عالمياً في شأن الأداء الجيد، ولديهم الكفاءة والقدرة على إشاعتها بين الفريق العامل. ولا بد من معاييرٍ في الأداء. فالجدال بين دعاة تغيير الأرضية وبين دعاة المحافظة على الحالة الراهنة يجب أن يكون منطقياً. ولا يمكن أن يؤدي إلى نهاية منطقية إلا إذا استعنّا بهذه المعايير.
ومن هم المؤهَّلون للتوعية والتعبئة غير أولئك الذين يملكون إرادة التغيير والرؤيا. وعليه، فلا بدّ من الإفساح في المجال لقدراتهم القيادية في هذا المسعى. فهم القادرون على وضع المعايير اللازمة، كأسلوب في العمل، لا كهدف. وهم الذين عندهم الإمكانيات الفكرية لإيجاد اللغة المناسبة لشرح هذه الرسالة للمترددين والمعارضين العاملين في الجهاز الصحي. والمنطق كفيلٌ بتعبئة هؤلاء في مهمة البحث عن الجودة. المسلَّمات يجب أن تُعمَّم على الجهاز الصحي. وأُولاها أن ضبْطَ الانحرافات ومنْعَ التفاوت الفادح في العناية الصحية، من موقع جغرافي إلى آخر، يوفران أموالاً طائلة، وينقذان كثيراً من الأرواح . فمثلاً، من غير المقبول أن تكون نسبة جراحة المرارة أو اللوزتين في منطقة 5% وفي المنطقة المجاورة 45%. هذا التفاوت سببه خللٌ يجب أن يُجابَه ويُعالَج. أما المسلَّمة الثانية، فهي أن المعايير في الأداء لا تتغير من مريضٍ إلى آخر. فلا يمكن الاحتجاج، في نَفْي ذلك، بخصوصية تجربة الطبيب الممارِس، وخصوصية الحالة بتفاصيلها من مريض إلى آخر. فالمرضُ، أيُّ مرض، يتّخذ، من الناحية الطبية، مساراً معروفاً. وهناك حالات معينة قد تحيد عن هذا الخط المعروف، ولكنّ الشذوذ ليس قاعدة. إن مقولة «الثوب الواحد هو بمقياس الجميع،» ومقولة «كتب الطبخ cook books» المرفوضتَين - وهما اللتان على رفضهما يبني المعارضون منطقهم - لا تنطبقان على هذه الحالة. فمعالجة الضغط الشرياني، مثلاً، لا تختلف من مريض إلى آخر بشكل عام. هذا المفهوم مهمٌّ جداً، خصوصاً في مرحلة النظام الصحي الجماعي (Population Health Management).. أمّا المسلَّمة الثالثة، فهي أن المعايير ليست هدفاً بحد ذاتها. إنها نقطة الانطلاق. وهي لا تمنع الاختبارات، ولا تعرقلُ التطور، ولا تثبّط الابتكار. والكل يعرف بأنه لا يمكن أن تُحمَّلَ المعايير ما لا طاقةَ لها على تحمُّله. فهي قد تستطيع أن ترفع مستوى الأداء المتوسّط Mediocre إلى مستوى أعلى، لكنَّ هذا لا يعني أنْ ليس هناك ما يوازي أو يتخطّى هذا الأداء. علينا، دائماً، ألاَّ نتقيّد بالسقوف، وأن يستمرّ البحث عن طموحات جديدة.

3) التعبئة

متى عمَّت التوعية، أصبحَت التعبئة سهلة، خصوصاً إذا اتُّبِعتْ عبارةُ ألكسندر دوماس Alexander Dumas في روايته «الفرسان الثلاثة»؛ العبارة القائلة: «الواحد للكلّ، والكلّ للواحد». وهذا، باختصار، مفهوم الفريق العامل كوحدة Team الذي يَعتبر أن النتائج النهائية مسؤوليّةُ الجميع. فإذا كانت جيدة، فالفضل يعودُ كُلُّهُ للمجموعة. أمّا إذا كانت وضيعة، فليس هناك مَن يلقي اللوم على هذا أو ذاك؛ إذ إنّ المسؤولية تقع على الجميع في تقويم ذلك. فالعملية، بدلاً من أن تكون عملية إلقاء اللوم والتنحّي جانباً، تصبح عملية مساعدة تلقائية لتحسين الأداء، وعملية إصلاح مشترك. وفضلاً عن المسؤولية الجماعية، يجب أن يكون هناك شفافية جماعية في إظهار النقص، وفي العمل على معالجته بجهد جماعي.
إن السعي نحو الجودة لا يتحدد بسقوفٍ ومتطلباتٍ محدودة. إنه حركة مستمرة نحو الأفضل، لا تتوقف عند حدود، ولا نهاية لها. دافعُها الأول والدائم طموحات جديدة. وهي، في سعيها هذا، تعتمد على إمكانيات ومهارات جميع العاملين فيها، إلّا أن الفكر القيادي يجب أن يكون في طليعتها.
* كاتب وطبيب، رئيس سابق لمنظمة الأطباء العرب الأميركيين