تلك الشركات إضافة إلى الأشكال التي ينشط فيها رأس المال المالي، فإنها تميل بطبيعتها وبنيتها التنافسية والاحتكارية إلى التمدد الأفقي، والعمودي/ الرأسي. وفي السياق المذكور تبتلع كل ما تستطيع هضمه من شركات أخرى. ولا تتوقف عند تلك الحدود، لكنها تتجاوزها إلى الهيمنة على اقتصاديات العديد من الدول، مسبّبة حدوث أزمات اقتصادية وانهيارات اجتماعية وإنسانية تتجاوز الأطر والحدود القومية.
ــ في ما يتعلق بالترابط الوظيفي بين المؤسسة العسكرية ومصانع السلاح من جهة، ورأس المال المعولم من جهة أخرى، فإنه يعود إلى هيمنة منطق الربح. وإذا كان تحقيق ذلك يفترض التوسع والاحتكار والهيمنة من قبل رأس المال، فإن ذلك يتكامل مع افتعال الحروب وإدارتها. وهذا بدوره يفتح لمصانع السلاح أسواق تصريف جديدة، ويسمح لها بتجريب وتطوير صناعتها الحربية. وهذا نلحظه جلياً في الحروب التي تقودها الرأسمالية في دول عربية ومناطق أخرى. وتبرّر الدول الكبرى سياساتها التدخلية ـ الاحتلالية بمواجهة الإرهاب الذي أسهمت في تكوينه ونشره. هذا في وقت تمارس فيه وسائل الإعلام العالمية سياسات التعمية والتضليل، وذلك عبر الترويج لنشر القيم الديمقراطية والليبرالية. وهذا يستدعي ظاهرياً ونتيجة أسباب إشكالية تتعلق بتلك الجهات «إسقاط أنظمة الاستبداد». وجميع تلك الأهداف تُستخدَم لخدمة مصالح رأس المال وصنّاع الحروب والسلاح في الحكومات الرأسمالية التي تشتغل على فرض هيمنتها العابرة للقومية لتحقيق مزيد من الاحتكار والسيطرة والنهب. وذلك في سياق يترابط مع اشتغالها على إعادة تقسيم ثروات العالم وأسواق العمل والتصريف. ويتم الاشتغال لتحقيق ذلك بالتزامن مع تهديم كيانية الدولة الوطنية، وإعادة توضيب الخرائط الجيو سياسية على أسس إثنية، طائفية، عشائرية.
ــ يصبُّ في السياق ذاته رفض دعاة النيو ليبرالية لدور الدولة التي شكلت لسنوات طويلة الحاضنة لرأس المال والمدافعة عنه وعن آليات اشتغاله على المستويين القومي، والعابر للحدود والجنسية. لكنَّ تضخم رأس المال وارتفاع معدل الربح إلى مستويات غير مسبوقة وتحوّله إلى قوة طاغية، يدفعه إلى تطويع الدولة الحاضنة له، ذلك في سياق ميوله التوسعية الهادفة بجانب منها إلى تحطيم الحدود السياسية والجغرافية والسيادية والقيمية. ويتزامن ذلك مع اشتغاله على الهيمنة على صناعة القرار الدولي. وليس هذا وحسب، لكن بلحظة معيّنة فإنه يحطّم القوانين التي وضعها لحماية ذاته. عند ذلك يدخل في طور الجنون الذي يقوده إلى الانتحار، وأسس لتلك التحولات زعيم المدرسة النيو ليبرالية ميلتون فريدمان وجسّدها سياسياً واقتصادياً رونالد ريغان، ومارغريت تاتشر. وكان ذلك في سياق تحجيم السياسات الكنزية التي حمّلها هؤلاء وغيرهم من المنافحين عن النيو ليبرالية أسباب أزمات الاقتصاد الرأسمالي. وكان من مضاعفات التحولات المذكورة، تعميق الطابع الطبقي للدولة وتحويلها إلى برغي في ماكينة رأس المال.
وكانت السياسات النيو ليبرالية بجانب منها نتيجة الفائض السلعي والمالي، تتمسك بأولوية تصدير الرساميل وفروع من الشركات إلى خارج الحدود، بشكل خاص إلى بلدان صناعية ناشئة يتوافر فيها عمَّال مهرة، بنية تحتية وفوقية محفزة للاستثمار، أجور منخفضة، قدرة شرائية، أسواق تصريف، نقابات ومنظمات حقوقية وإنسانية ضعيفة... ذلك في سياق تحطيم الحواجز والحدود القومية، وتعميق اندماج رأس المال العالمي وإخضاع تجلياته الطرفية تمهيداً إلى ابتلاعها. ويجب التذكير بأن استهداف بنية الدولة يتمحور بنحو رئيسي حول تفريغها من دورها الاجتماعي وتحويلها إلى خادم لرأس المال الحر ومدافعة عنه وعن جرائمه ضد الإنسانية. ونُذكّر بأن تصدير الفائض من الرساميل والسلع من الدول الصناعية إلى الدول الطرفية لا ينحصر فقط في أزمة رأس المال، لكنه يهدف إلى ربط تلك الدول بنيوياً بحركة رأسمال العابر للقومية، واستنزاف الموارد والأموال. ومن المعلوم أن حجم المبالغ النقدية والمالية التي تُخرَج من الدول الطرفية وتحديداً النفطية، إلى مصارف وأسواق الدول الرأسمالية المركزية، أكبر بكثير من المبالغ التي تصدِّرها الدول الصناعية على شكل قروض إلى دول طرفية أخرى.
أسهمت ثورة الاتصالات والتكنولوجيا الرقمية في تغيير بنية رأس المال
ــ تحوّل آليات اشتغال رأس المال الصناعي إلى رأس مال مالي مضارب يجوب العالم بقوة السلاح لتحقيق أعلى معدل من الربح. ويتجلى ذلك في الابتعاد عن توظيف الكتل النقدية في القطاعات الاقتصادية الإنتاجية التي تُعتبر المصدر الأساسي للحصول على القيمة الزائدة.
ـ أسهمت ثورة الاتصالات والمعلومات والتكنولوجيا الرقمية، في تغيير بنية رأس المال، وآليات اشتغاله وفي زيادة التمركز وارتفاع معدل الربح إلى مستويات جنونية، والميل إلى الاحتكار، وأيضاً خفض ساعات العمل «العمل الجزئي»، وذلك لمواجهة أزمة البطالة الناجمة عن الاستغناء عن أعداد كبيرة من العمّال نتيجة التطور التكنولوجي، وبسبب إحلال الروبوت مكان العمّال في كثير من مجالات العمل. فتغيّرت نتيجة ذلك آليات إنتاج فائض القيمة، وانتقلت من حقل الإنتاج السلعي إلى حقل الاستثمار في الأوراق المالية والبورصات والسندات والمضاربات... وكان لذلك دور كبير في تراجع دور قانون القيمة.
ــ إن التحولات في بنية وآليات اشتغال رأس المال المعولم إضافة إلى التطور التكنولوجي والثورة الرقمية فرضت تحولات عميقة في بنية وتركيبة الطبقة العاملة وطبيعة وعيها وآليات اشتغالها. هذا في وقت تزداد فيه الحاجة إلى قوى عاملة تمتلك مؤهلات علمية عالية.
ــ زيادة مستوى التشابك والتداخل العالمي وتراجع الخصوصيات الوطنية والقومية، يقابله نتيجة اختراق الحدود القومية والتحولات الناجمة عن الثورة الرقمية، وتغيير آليات اشتغال الرأسمالية المعولمة التي تميل إلى الغطرسة والفوقية لفرض شروطها، مزيد من التمسك بالذات الوطنية ـ القومية. ويتجلى ذلك أحياناً بأشكال ومستويات تتجاوز حدود الدولة القومية «بريكس، آسيان، آبك...». ومع ذلك لم يعد للحدود الجغرافية في ما يتعلق بالتبادل «السلعي ـ وسائل الإنتاج» والإنتاج والعلاقات الاقتصادية، ذات المعاني السابقة.
ــ تراكم رأس المال (فائض نقدي) + انخفاض معدل الربح + التطور التكنولوجي + وصول القطاعات الإنتاجية إلى درجة الإشباع = تصدير الرساميل إلى خارج الحدود القومية.
إن تلازم التحولات التي طرأت على بنية الإمبريالية وآليات اشتغالها في سياق عولمة الرأسمالية، مع تحولات في بنية وتركيبة ووعي الطبقة العاملة والمجتمعات عموماً يدل على أن أبواب التاريخ مفتوحة أمام التغيير والتطور على كافة المستويات والأشكال.
* باحث وكاتب سوري