البحر هو آخر دروب الخلاص. هو كلّ ما تبقى للفرار من هذا الجحيم الأرضي على امتداد مساحة البؤس. تتراكم الأجساد الهزيلة، تعوي على زوارق بدائية يتقاذفها موج البحر وتتناهشها أسماكه ثم يعود الموج ليلفظ ما تبقى على شواطىء بعيدة. فلا مراسم دفن ولا غسل ولا أي من هذه الأشياء. لا شواهد قبور ولا معالم ولا رثاء.
وحدها القلة الناجية تستسلم لجمعيات الرفق بالإنسان على الضفة الأخرى. تحاول أن تقنع أصحاب العيون الزرق بحقيقة انتمائها للجنس البشري. لقد غدونا أشباه بشر، أشلاء تتجول، أشباحا مرعبة تخيف ذواتها والآخر. لم نعد ننتمي لهذا العالم. صار عالماً آخر. كوكباً شديد الإختلاف. بالكاد نميّز أننا ما زلنا على الكوكب نفسه في هذه الزاوية من المجرّة. أشكال بشرية تجوب البحار بحثاً عن كسرة خبز وركن دافىء وبعض أمان. دارت الأرض آلاف الدورات وفي كلّ مرة كانت تنسى أن تحمل معها جزيرة العرب. صار الفارق الزمنيّ لا يقاس. لم يعد لنا من وظيفة نقوم بها ولما كان البقاء لمن له وظيفة يقوم بها في حكم قوانين الطبيعة فإنّ اندثارنا صار شيئاً حتمياً. لم نعد نعني شيئا لمسيرة الوجود منذ أن فقدنا مبرر وجودنا. لقد تفوّقت تكنولوجيا الموت الحديث على أوهامنا البدائية. ليس لدينا سوى أن نمارس تحدّي الحياة بالجسد. لم يعد الجسد سلاحاً. لا يكفي الجسد حتى لو نثرته أشلاء لتغيير الواقع. صار الدم رخيصا جداً، أرخص بكثير من براميل النفط والغاز. منذ زمن طويل ماتت أساطير التضحية. صارت شيئا لامجديا.عبثية غبية. بندقية واحدة كانت كفيلة بإبادة عشيرة كاملة من عشائر الأباتشي. وانقرض الهنود الحمر تحت عيون الإله القمر ولم يحرّك ساكنا. تتحدى اليابان جبروت الولايات المتحدة. تغزو أسواقها وتتفوّق على منتوجها دون أن يكلفها ذلك إصبع واحد جريح. تتربع السويد على أعلى مراتب الرقي الإنساني وهي تجهل بالمطلق أن هناك ربا يطالب بقرابين بشرية. لكن من سيقنع تلافيف هذا الدماغ العربي بامتداداته القاريّة والذي تؤويه جمجمة هزيلة بأنّ برمجته هي من عالم آخر ومن بعد منقرض منذ عصور؟ في مشهدية الأب الذي يودّع طفلتيه في الشام ويحرّضهما على القيام بعملية انتحارية فائض من السوريالية. لكنّ هناك فائضاً من الكذب أيضاً.

عالمنا ينهار ويجب أن تتهاوى معه القيّم البائسة التي أنتجت كل هذه الفظاعة
الجمهور ذاته الذي يقرأ في المدوّنات الإبراهيمية بتراثها اليهودي الإسلامي لا يجب أن يفتعل الدهشة. التضحية بالطفل على مذبح الرب موروث جمعي مقدّس. من يجرؤ على إنكاره؟ مفهوم الطفولة بمعناها الحديث هو مفهوم غربي بالمطلق. هو ثمرة مدرسة فرويد ويونغ كما هي غربية أيضا مفاهيم حقوق المرأة وحقوق العامل وحقوق الكلب وحقوق البقرة في لحظات ما قبل الذبح. هذا الغرب العاهر، العنصريّ قطعاً، والذي قام بنفينا مبكراً من عوالم عقل ديكارت وقام بعزلنا في مقولة هيغل؛ «الشرق لا يقوم إلاّ لنبي أو إمام». لم يمارس علينا في دوره كمستعمر إلاّ حسابات دورة رأس المال. لم يكن راديكالياً بما يكفي لإرغامنا على الخروج من الشرنقة التاريخية التي تكبّلنا. مع المحافظين الجدد في لعبة الفوضى الخلاّقة إنهار التوازن الهشّ. لم يولد شيء جديد بل خرج التاريخ كله بكلّ ظلاميته. في منظور لينين الثورة هي الإتيان بشيء غير متوقع، بشيء جديد تماماً لا يشبه أي حدث يسبقه. ما جرى هو دوران في الفراغ. كوميديا سوداء في استعادة لأسوأ مراحل التخلف في تاريخنا. الداعشية هي ثمرة اللاوعي الجمعي. الدواعش ليسوا كائنات فضائية بل منتوج أرحام. هناك نساء بالملايين تلدن دواعش. للمدنية طريق واحد. لا يمكن أن تتعايش الديناصورات والقطط المهجّنة تحت السقف ذاته. الغرب يعي هذه الحقيقة اليوم، يتلمّسها على جلده، في باريس كما في برلين. ليس بالإمكان ترويض الكائنات البدائية بعزلها في مخيمات لجوء. ما ينبغي هو ضرورة ترويضها في أماكن تواجدها الطبيعي وفي بيئتها بالذات. يحتاج الأمر لجهد كبير. لألم فظيع قد يصل حدّ الإبادة. ما مارسه الإتحاد السوفياتي في أفغانستان والشيشان يصبح اليوم مفهوما أكثر من أي وقت مضى. حتى وحشية كرازيتش في سربرنيتسا تجد اليوم من يصفق لها كفعل وقائي. لا يشذّ سجن أبو غريب ومطاردة أبو مصعب الزرقاوي عن المنطق عينه. تتهاوى المتاريس. لم يعد مفهوما اليوم خطاب «شعوب المنطقة في مواجهة الغربي». من المقصود بشعوب المنطقة؟ هناك جماعات تستشرس في مقاومة العالم الواقعي وآخرون في الركب الروسي ــــ الأميركي. صار العالم أقرب ما يكون إلى نهاية تاريخ فوكوياما. ليس هناك في الأفق من بدائل سوى المفهوم الغربي السائد وبعض النفاق الشرقي من الذين يرددون شعارات غير مفهومة وهم يتموضعون في الخندق الأميركي او الروسي مرغمين. هي الحتمية التي تقضي بابتلاع الثقافة الأقوى للثقافة الأضعف. أمر يدخل في مفاهيم الداروينية: البقاء للأصلح. ليس صحيحا أن الربيع العربي كان عقيما. الربيع العربي خرج بمشهدية جديدة. برواية مفادها أن لا شيء سيعود كما كان. عالمنا القديم ينهار وسيكمل انهياره ويتهاوى تماما. كان يجب أن يتهاوى وتتدحرج معه إلى حيث لن تعود كل القيّم والمفاهيم البائسة التي أنتجت كل هذه الفظاعة. وفي تهاويه سيجرف معه أشياء ستصبح يوما مهزلة حين نذكرها.
* كاتب لبناني