«مراسلات ماركس العربية: بين المنهج والنص» عنوان مقال وضعه يزن زريق (في العدد ٣١٥١ الأربعاء ١٢ نيسان ٢٠١٧). يدور موضوعه حول مدى اهتمام المفكرين العرب بما عُرف باسم «الرسائل الشرقية ـ العربية». وبتقديره فإن «القليل جداً من الناس يعرف كتابات ماركس وأنجلز حول العرب والشرق عموماً.


لكن الأقل هم من يدركون أهميتها... ومع الأسف، فإنها حتى اليوم لم تدرس عربياً بما يكفي أو كما تستحق».
ليس غريباً أن يكون القليل من الناس يعرف كتابات ماركس وأنجلز عن العرب، أو يعرف ما سُمِّي «الرسائل الشرقية العربية». فمعرفة الناس بمضامين العلوم الإنسانية وغيرها محدودة للغاية عموماً. وأن يكون «الأقل من يدركون أهميتها» فهذا أمر غير مستغرب أيضاً. هذا «الأقل» يتشكل، في العادة، من فئة من المفكرين الذين تعنيهم الماركسية، قبولاً بها أو رفضاً لها. ولكن السؤال يدور حول ما يقرره يزن زريق بقوله: «مع الأسف، فإنها (يقصد «الرسائل الشرقية ـ العربية») حتى اليوم لم تُدرس عربياً بما يكفي أو كما تستحق».
فهل تأكيد الكاتب على صواب؟ بتقديرنا هذا شططٌ في الحكم على الأمور يجافي الحقيقة المخالفة تماماً لمجريات تاريخ الاهتمام المبكر والمعمق من قبل المفكرين الماركسيين العرب بكتابات ماركس وأنجلز بـ«الرسائل الشرقية ـ العربية» وبغيرها مما له علاقة مباشرة بالتاريخ العربي القديم من جهة وباستكمال بناء المادية التاريخية وتطور أنماط الإنتاج على المستوى العالمي، من جهة أخرى.
بداية نوضح أن المقصود بـ«الرسائل الشرقية ـ العربية» ثلاث رسائل متبادلة بين أنجلز وماركس في أواسط عام 1853: من أنجلز إلى ماركس، حوالى 26 أيار، من ماركس إلى أنجلز، في 2 حزيران، من أنجلس إلى ماركس، في 6 حزيران. ويمكن أن نضيف إليها رسالة ماركس إلى أنجلز في 14 حزيران 1853، والتي يختمها بقوله: «يبدو لي، على أي حال، أن المسلمين هم أول من أرسى مبدأ لا ــ مُلكية الأرض في عموم آسيا». بالطبع يُضاف إلى ذلك جملة من نصوص ماركس وأنجلز تتناول العرب والمسلمين في مقالات ورسائل ومناسبات متفرقة.
بالعودة إلى طرحنا حول مخالفة ما قرره يزن زريق نتقدم بالآتي أدناه. يعود اهتمام المفكرين الماركسيين العرب بهذه الرسائل إلى عقود عدة من الزمن. فمنذ 59 عاماً نشر الكاتب المصري ابراهيم عامر، في مؤلفه «الأرض والفلاح والمسألة الزراعية في مصر» (الدار المصرية للنشر، القاهرة، 1958، ص 51 و52 و53)، معظم مقاطع رسالة أنجلز إلى ماركس (6 حزيران 1853)، مستعيناً بها لتأكيد تصوّره لطبيعة الملكية في مصر ما قبل محمد علي، كما استشهد بمقالة ماركس عن الحكم البريطاني للهند في 10 تموز 1853. إنه لمن مدعاة الاستغراب أن يلفت هذا الكاتب المصري نظر الباحث الشيوعي الفرنسي جان شينو (J. Chesneaux) فيقول فيه في مقال له بالفرنسية (في مجلة «لا بانسيه La Pensée» العدد 114، 1966): «ليس من قبيل الصدفة إن وجدنا بين الماركسيين الذين يدعون اليوم إلى الرجوع إلى مفهوم نمط الإنتاج الآسيوي عدداً لا بأس به من الباحثين المنتمين إلى شتى أقطار العالم الثالث: ابراهيم عامر الذي ينوه بأهمية المشاعات الريفية وملكية الدولة العقارية عبر تاريخ مصر بأسره...» (ويذكر كتابه). يقول شينو ذلك في معرض إشارته إلى «تجدّد الاهتمام (في مطلع الستينيات من القرن الماضي) بمسألة نمط الإنتاج الآسيوي...».


سلّطت هذه «الرسائل» الضوء على المسألة الدينية في بلادنا


ولو أن كاتبنا يزن زريق بذل القليل من المراجعة والجهد لعثر، في مؤلفات ومقالات وترجمات المفكرين الماركسيين من مواطنيه السوريين فقط، مادة وافرة للغاية حول موضوعه، «الرسائل الشرقية ــ العربية»، وهي مادة كانت أغنته عن الوقوع في هذا الخطأ الكبير.
ففي عام 1968 (أي منذ 49 عاماً)، نشر المفكر الماركسي السوري، الياس مرقص، كتاباً ضخماً (أكثر من 700 صفحة من الحجم الكبير)، عنوانه «الماركسية والشرق» (دار الطليعة - بيروت). في نهاية الفصل الثالث من هذا المؤلف، عنوان فرعي: «أنجلز والعرب» (ص 237 حتى ص 257) وفيه عرض مفصّل لـ«الرسائل الشرقية ـ العربية». وفيها يقول مرقص: «إذا كان من الخطأ أن نستنبط حلول قضايا التاريخ العربي من رسائل تطرق فيها ماركس وأنجلز إلى العرب، فإنه من الخطأ أن نتجاهل هذه الرسائل» (ص 248). وعرض في الفصل الرابع مفهوم «نمط الإنتاج الآسيوي» والمادية التاريخية. كما استعرض قبل ذلك أصول المنهج الماركسي، ونظرة الماركسية في تطورها إلى المسألة الفلاحية وقضية القومية. وتوقف أمام تبلور موقف ماركس ما بين «الرسائل» (1853) ونصه «حول أشكال الإنتاج ما قبل الرأسمالية» (1858- 1859).
وفي عام 1972 (أي منذ 45 عاماً)، نشر المفكر الماركسي السوري أيضاً، جورج طرابيشي، نصوصاً مترجمة إلى العربية في كتاب بعنوان «حول نمط الإنتاج الآسيوي»، (دار الطليعة ـ بيروت). وهذه النصوص بالغة الأهمية وهي من أبرز النصوص الفرنسية الصادرة في أواسط الستينيات بمناسبة المناقشات في هذه المسألة بإشراف "شعبة الدراسات الآسيوية والإفريقية" («شعبة الاستشراق» سابقاً) التابعة لـ«معهد الدراسات والأبحاث الماركسية» (الحزب الشيوعي الفرنسي). ولقد توقفت جميع النصوص أمام «الرسائل» (1853) واعتبرتها مجرد بداية في تحليل المؤسسات المشاعية. وأبرز هذه النصوص يعود إلى موريس غودلييه Maurice Godelier ويعادل في حجمه حوالى نصف الكتاب. وفيه يشير إلى أن بعث الاهتمام بـ«الرسائل» جرى في سياق «العودة إلى ماركس» بعدما سلط المؤتمر العشرون للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفياتي الضوء على أخطاء الستالينية. ولم تتوقف العودة على «الرسائل»، بل شملت نصوصاً سبقت ومهدت لنشر مؤلف «الرأسمال» لماركس. وأبرزها «أسس نقد الاقتصاد السياسي» و«حول نقد الاقتصاد السياسي» (1859)، و«نصوص حول أشكال الإنتاج قبل الرأسمالية». وثمة إجماع على أنه في سياق هذه النصوص بلور ماركس ما سماه في عام 1859 مفهوم «نمط الإنتاج الآسيوي».
وفي عام 1974 (أي منذ 43 عاماً) نشر المفكر الماركسي السوري أيضاً، صادق جلال العظم، ترجمة إلى العربية لـ«نصوص حول أشكال الإنتاج ما قبل الماركسية» التي جمعها وقدم لها إريك ج. هوبزباوم، (دار إبن خلدون ـ بيروت). يقول هوبزباوم مقدم هذا الكتاب: "لا شك أن «أشكال الإنتاج...» يمثل إلى حد بعيد مرحلة أرفع وأكثر تدقيقاً في تفكير ماركس وهو يستند بالطبع إلى دراسات تاريخية أكثر تنوعاً واتساعاً ومن دون أن تكون محصورة بأوروبا هذه المرة. وهنا نجد أن التجديد الرئيسي في لائحة المراحل التاريخية هو النظام «الآسيوي» أو «الشرقي» الذي أدخله ماركس في المقدمة الشهيرة «لنقد الاقتصاد السياسي»... (ويُضيف) نتيجة الجهل «بأشكال الإنتاج...» استندت مناقشة النظام الشرقي بصورة رئيسية في الماضي إلى رسائل ماركس وأنجلز المبكرة وإلى مقالات ماركس حول الهند (وكلا المصدرين يعود إلى 1853)» (ص 27).
وفي عام نفسه 1974 (أي منذ 43 عاماً) نشر المفكر الماركسي السوري أيضاً، ياسين الحافظ، ترجمة لمؤلف ماركس وأنجلز «حول الدين» (دار الطليعة ــ بيروت). وفيه نجد «الرسائل الشرقية ــ العربية» (ص 73 ــ 79).
علاوة على هذه المؤلفات المركزية بالنسبة إلى موضوعنا، يعثر المدقق في الاهتمام الفكري العربي بهذا الموضوع على مئات المقالات وعشرات الكتب التي وضعها المفكرون الماركسيون العرب.
تبقى مسألة جديرة بالاهتمام وهي تكمن في الضوء الذي سلطته هذه «الرسائل» على الدين والمسألة الدينية في بلادنا. ومن ذلك سؤال ماركس: «لماذا يظهر تاريخ الشرق في صورة تاريخ أديان؟»، واعتباره مسألة ملكية الأرض في الشرق «المفتاح الحقيقي لفهم السماء الشرقية». وتأكيد أنجلز: «إن عدم وجود ملكية الأرض هو بالحقيقة مفتاح كل أوضاع الشرق. في هذا يكمن تاريخه السياسي والديني». وخلاصة موقفهما ربط نشوء وتطور الظاهرة الدينية الإسلامية بالواقع التاريخي والجغرافي والاجتماعي الذي استدعى الثورة المحمدية. فهل نستطيع بالمنهج نفسه أن نفسر تنامي الحركات السياسية الدينية التي تعتمل اليوم في المشرق العربي؟ هذا بحث آخر وملح.
* أستاذ جامعي