أدى سيل المناقشات الذي دار حول الموازنة وسلسلة الرتب والرواتب داخل الحكومة والمجلس النيابي خلال الأسابيع الأخيرة، إلى خلق مناخ في البلاد أقرب ما يكون إلى «الفوضى الخلّاقة». ويعود قسط كبير من هذه الفوضى إلى خلل عضوي في النظام السياسي الطائفي ونمط مجالسه النيابية التي تشكو بصورة عامة من انعدام الأهلية السياسية والمهنية التي تمكّنها من الاضطلاع الكفؤ بأهم الوظائف الدستورية المنوطة بها، وفي طليعتها الالتزام بإعداد وإقرار الموازنات السنوية.
فالموازنات السنوية المنتظمة (مع قطع حساباتها) تشكّل المرجعية الأهم والأشمل للسياسات الاقتصادية في أي بلد من البلدان، في حين يظهر الواقع اللبناني أن المجالس النيابية المتعاقبة منذ بدء تنفيذ اتفاق الطائف قد اكتفت بوضع أشباه موازنات وأشباه عمليات قطع حساب، ثم ما لبثت أن توقفت تماماً عن ممارسة هذا التقليد الملزم بعد عام 2005، تحت ضغط المشاريع الخاصة للقوى الحاكمة والانقسامات التي تعصف في صفوفها.
ووسط تصريحات وتسريبات وتراشق أرقام واتهامات بين أطراف الحكم خلال الأسابيع المنصرمة، بدت هذه الأجواء كأنها تستهدف تحقيق واحد من أمرين: الأمر الأول، «تجهيل الفاعل» وتبرئة ذمّة هذا الطرف أو ذاك من انهيار المالية العامة والتردّي المريع في أوضاع الدولة والشعب، خصوصاً بعدما تجاوزت قيمة الدين العام الرسمي المعلن 76 مليار دولار في أوائل هذا العام، وتجاوزت قيمة الدين العام الفعلي وغير المعلن عتبة المئة وعشرة مليارات دولار؛ والأمر الثاني، استخدام بعض الأطراف الحاكمة للموضوع المالي والضريبي كأداة لتصفية الحسابات حول ملفّات ساخنة لا يرتبط إلا القسم القليل منها بموضوع الموازنة والسلسلة، بينما تطغى على قسمها الأكبر اعتبارات تتعلق بقانون الانتخاب، وبالوجهة التي سوف ترسو عليها عملية تجديد نظام المحاصصة في العهد الجديد، وبالتالي عملية تموضع كل من تلك الأطراف في إطار هذا النظام.

قد تجد أوساط خارجية أن الفرصة سانحة لإجراء بعض التحسينات في بنية «الطاقم» السياسي

وفي الردّ على محاولة اصطناع هذه «الفوضى الخلّاقة»، بدأت تلوح في الأفق مجدّداً عودة رياح الحراك الشعبي للانبعاث للمرّة الرابعة منذ نحو خمس سنوات، بعدما تعزّزت القرائن الدامغة حول عزم المجلس النيابي، ومن خلفه الطغمة المالية والزعامات السياسية الطائفية، على فرض ضرائب ورسوم جديدة تطال بشكل أساسي غالبية الناس، وبخاصة العمال والأجراء والفئات الفقيرة والمتوسطة، من دون أن تترافق هذه الزيادة في العبء الضريبي مع أي خرق إصلاحي فعلي في بنية الإنفاق العام، المشبعة بالهدر والفساد والتحاصص والنفقات الزبائنية. وبالفعل فقد شهدت الشوارع على امتداد الأسبوع المنصرم عودة التحركات الشعبية ضد هذه السياسات العامة الجائرة، في شكل تجمعات واعتصامات وتظاهرات عمّت العاصمة والمناطق على حدّ سواء، وكان أبرزها تظاهرة الحراك الشعبي يوم الأحد الفائت في 16 آذار والتظاهرة التي سبقتها ودعا إليها اتحاد الشباب الديموقراطي وقطاع الشباب في الحزب الشيوعي اللبناني قبلها بيوم واحد. وإذ يتطلّع الحزب الشيوعي والقوى اليسارية والديموقراطية نحو الاضطلاع بدور أساسي في دفع هذا الحراك إلى الأمام والمساهمة الفعّالة في قيادته، فإنه يرى ضرورة التوقف مليّاً عند الوقائع والاعتبارات الأساسية التالية:
1- إن مكوّنات الحراك الحالي مطالبة بأن تستخلص بصورة مشتركة محصلة الدروس والعبر من نقاط القوة والضعف التي انطوت عليها تجارب الحراكات السابقة، وأن تسعى بمسؤولية وتواضع لتوظيف هذه المحصلة في عملية تصويب وتحفيز وتصعيد الحراك الحالي. والمطلوب بإلحاح أن تبادر مكوّنات الحراك الحالي إلى تشكيل إطار قيادي ديموقراطي جامع لتنسيق وتفعيل نشاطاتها، حتى تتجنّب استمرار التسابق المصطنع وغير البنّاء على احتلال المؤسسات العامة والساحات أو التفرّد في إعلان المواقف المجتزأة، وحتى تتجنّب أيضاً تسعير التنافس العشوائي وأحياناً الفظّ على كسب الودّ غير البريء من جانب بعض وسائل الإعلام التي تحرّكها في المطاف الأخير أجندات ومصالح خاصة. وبالإضافة إلى هذا الإطار الجامع، يجب أن تمتلك قوى الحراك في الوقت ذاته، رزمة واضحة ومحدّدة من الأهداف المشتركة، مع السعي لترتيب سلّم الأولويات ضمن هذه الأهداف، حتى لا تسهل تفرقة أو شرذمة صفوف هذه القوى من قبل أصحاب المصالح السياسية والاقتصادية المبيّتة.
2- إن هذه الدعوة إلى وجوب تحصين العمل المشترك للحراك الشعبي حول رزمة الأهداف الأساسية المتفق عليها، تنبع من الحرص على حماية هذا الحراك من فئات وأطراف محدّدة قد تسعى لاختراقه أو حرفه عن مساره المرسوم، في صالح أجندات من نوع آخر. فالنزول إلى الشارع يرجّح ألا يكون حكراً على الحراك الشعبي وحده في هذه المرحلة الانتقالية بين عهدين، إذ ثمّة لائحة تطول وتطول من «اللاعبين المتضرّرين» الذين قد لا يتردّدون في توسّل الشارع أيضاً لدوافع أخرى مختلفة وربما متناقضة مع الدوافع التي تعني قوى الحراك. ومن بين هؤلاء اللاعبين أطراف من داخل تشكيلات السلطة تشعر بأن دورها مهدّد بالتحجيم أو التهميش في إطار التحولات الجارية في نظام المحاصصة الطائفية القائم. كما أن من بينهم شرائح من رأس المال المصرفي والعقاري الكبير التي ترعبها فكرة إخضاعها ــ للمرّة الأولى ــ لعبء ضريبي إضافي يقتطع جزءاً ملحوظاً من فائض أرباحها بحسب ما هو وارد في مشروع الموازنة الحالي. كذلك فإن اللائحة ذاتها ربما تشمل أوساطاً خارجية (سفارات أو منظمات دولية) تجد أن الفرصة باتت سانحة لإجراء بعض التحسينات التجميلية في بنية «الطاقم» السياسي الحاكم، تعزيزاً لفرص التفاعل بشكل أعمق وأشمل مع متطلبات العولمة.
3- إن الأهداف الأساسية والمشتركة التي يجب أن يعمل الحراك على تحقيقها تشمل المحاور التالية: عدم القبول بتمويل الزيادة في الإنفاق العام بواسطة ضرائب تجبى من جيوب الفقراء، والإصرار على إدخال بعد تصاعدي واضح على ضريبة الدخل والأرباح والتحسين العقاري والفوائد المصرفية، إضافة إلى إخضاع كبار المكلّفين (كالمصارف) لترتيبات ضريبية خاصة؛ والتأكيد على فتح ملفّات التهرّب الضريبي والهدر والفساد في ما يخصّ إيرادات عدد من المرافق العامة الأساسية، لا سيما المرافئ والمرافق الحيوية كالجمارك والمطار والمنطقة الحرّة (في المطار) وكهرباء لبنان ووزارتي الأشغال والاتصالات والأملاك البحرية والنهرية والمشاعات والكازينو وغيرها؛ والتصدي للإجراء الملتبس القاضي بفصل سلسلة الرتب والرواتب عن الموازنة، أو بتهريب القروض والهبات الواردة إلى مجلس الإنماء والإعمار وغيره من المؤسسات العامة إلى خارج الموازنة؛ والتمسك بإقرار السلسلة ضمن أفضل الشروط المتاحة مع السعي لردم الفجوة بين الأطراف المعنية بها من إداريين ومعلمين وعسكريين.
4- إضافة إلى الأهداف المشتركة المذكورة أعلاه، يمكن للحراك الشعبي أن يشمل في لائحة أهدافه طائفة مهمّة من الإجراءات، خصوصاً في باب النفقات العامة التي يتجاهل مشروع الموازنة اقتراح إصلاحات واعدة بشأنها. ومن ضمن هذه الإجراءات: تكثيف الضغط لزيادة الإنفاق الحكومي الرأسمالي على حساب النفقات الجارية غير المنتجة، كي يتمكّن البلد من تمويل النهوض بالمرافق والخدمات العامة الأساسية، التي تعني غالبية اللبنانيين؛ والعمل على إقفال الصناديق العامة المختلفة التي أتخمت بالهدر والمحسوبية والعلاقات الزبائنية، بما فيها وبالأخص مجلس الجنوب وصندوق المهجّرين اللذين استنفد الغرض منهما بعد أكثر من عقدين على إنشائهما؛ والمبادرة إلى إنهاء بدعة التعدد غير المبرّر في نظم التأمينات الصحية العامة وشبه العامة، التي تتعاظم نفقاتها الإدارية والتشغيلية عاماً بعد عام، بينما تنحسر نسبياً قاعدة المستفيدين من خدماتها؛ والعمل كذلك على إغلاق مؤسسات التعليم الخاصة المجانية ذات الكفاءة التعليمية المتدنية، والتي يجرى تمويلها من المال العام، بينما يشحّ تدريجياً تمويل التعليم الرسمي نفسه؛ وينطبق الأمر نفسه على التحويلات والمساعدات التي يمنحها مجلس الوزراء وعدد من الوزارات، لا سيما وزارة الشؤون الاجتماعية، إلى جمعيات غير حكومية شبه وهمية من مشارب طائفية مختلفة، من دون أن يجرى التثبّت من مدى جدوى هذا النوع من الإنفاق؛ والمطالبة بإعادة النظر في معاشات النواب والوزراء الحاليين والسابقين، وكذلك في التقديمات والمنافع الاجتماعية والتقاعدية الممنوحة اليهم، الأمر الذي ينطبق أيضاً على بعض كبار موظفي الدولة في عدد معروف ومحدّد من الأجهزة والمؤسسات العامة التي تشمل كلاً من السلكين المدني والعسكري.
إن الغاية الأساسية من عرض هذه الوقائع والاعتبارات هو المساهمة، إلى جانب قوى الحراك الشعبي، في بلورة خريطة طريق تتفق عليها هذه القوى، كي تشكّل رافعة للعمل المشترك الذي يفترض أن لا يتوقف عند موضوع الموازنة أو موضوع السلسلة، بل ينبغي أن يمضي قدماً ويتراكم حتى إرساء القاعدة المادية لبناء الدولة الديموقراطية العلمانية.

* افتتاحية العدد 310 من مجلة النداء