يرفض موسى الصدر أن يغادر، أن يأوي إلى كفن أو أن يلتجأ إلى قبر. الغيّاب لا يموتون، هم يرجعون دوماً. لطالما كان كذلك. في اللاوعي «الرافضي» يتهاوى ذاك الجدار الذي يفصل الأحياء عن الأموات، هناك دوماً منفذ لعبورهم إلى عالم الأحياء. لا تشذّ الشيعة الإثني عشرية وليدة نفي أبي ذر الغفاري إلى برّ الشام عن أخواتها من فرق «الرافضة»، المعاصرة منها والمنقرضة.
انتظرت الواقفة إمامها محمد بن الحنفية بن علي كي يعود من غيبته في جبال تهامة حيث يحرسه نمر وأسد وتنبع من عينه اليمنى كل ينابيع الماء العذب بينما عينه اليسرى تفيض بالعسل، وفي رحلة الانتظار انقرض المنتظرون ولم يرجع الغائب. وانتظرت الفطحية عبدالله بن جعفر دون جدوى وغابت الإسماعيلية في عوالم الأفلاطونية واستدعت كل أسرار الكون وهي تحاول استرجاع الغائب محمد بن اسماعيل.
في غربة موسى الصدر لحن وجودي لا يمكن تجاوزه فهو يستدعي كل الموروث البدئي. فليس موسى الصدر حدثاً عابراً دمغ ببصمته جيلاً عايشه، إنّما هو تفاعل «فيزيائي» اخترق جدار الزمن وما زال يواصل. في غربته ولدت أجيال وشاخت، لكنها، هذه الأجيال، التي ولدت وعاشت في غيبته ما زالت تحنّ دوماً لوجه لم تره ولم تعرفه، هو وجه الغائب. لا يستطيع الشيعة في لبنان كتابة تاريخهم أو رسم هويتهم إلاّ بالعودة إلى موسى الصدر. شيء يتعدى تصدي الرجل للحرمان والفقر التاريخي ويتخطى أبعاد الصراع الطبقي في مكان كان كل فيه يشير إلى كذبة مفضوحة تحت شعار التعدد الحضاري بينما في الواقع لم يكن هناك من حقيقة سوى حقيقة الناهب والمنهوب، السارق والمسروق. ليس عبثاً أن يكون أبو ذر الغفاري الثائر العلوي حاضراً دوماً في كيان الرجل. ففي ضمير «الروافض» يبقى أبو ذر هو أول من استقرأ الصراع الطبقي على قاعدة «ما متّع غني إلّا بما حرم منه فقير»، فكانت حركة المحرومين في إيمانها بإمكانية تحقيق مجتمع العدالة الاجتماعية وصياغة الإنسان على أسس مدنية في مجتمع تنهشه العشائرية والطائفية والإقطاع. لقد سعى موسى الصدر لتحرير الإنسان بالضبط من براثن وقيود الواقع المتخلف. رؤيته للدين لا تختلف عن المدرسة النهضوية التي هو من مؤسيسها، هي مؤسسة تنطق على لسان د. شريعتي المفكر الإيراني المغدور: الدين الذي لا ينفعك في الحياة لن ينفعك بعد الموت. دين لا ينفي أحزمة البؤس ولا يقتل الفقر والبطالة والجهل لا ينتمي لعلي، هكذا كان يرى الغائب. بوصلة الصراع صاغها موسى الصدر بوضوح شديد لا يحتمل التأويل. الإنسان هو القضية والأيديولوجيا في خدمة الإنسان. إسرائيل دولة غاصبة سارقة تمتلك ما لا حق لها فيه، فهي بالتالي شر مطلق. ولأنها شر مطلق ولأنه لا يمكن التعايش مع الشيطان كان لا بدّ من إرساء أسس لمقاومة عسكرية كانت طلائعها أفواج المقاومة اللبنانية دون أن ينسى الإمام أن سلام لبنان هو أفضل وجوه الحرب مع إسرائيل وأن بناء دولة مؤسساتية عادلة ومدنية هو بحدّ ذاته هزيمة للعدو.

ليس موسى الصدر حدثاً عابراً دمغ ببصمته جيلاً عايشه

لطالما أنشد موسى الصدر نشيد الحياة لوطن كان يراه جميلاً بما تحتمل العبارة، حتى في التفاصيل الصغيرة. وقد واظب على زراعة هذا الحلم في الأجيال الناشئة عبر الحركة الكشفية وعبر إطلالته في المدراس وفي كل مناسبة أتيح له فيها مخاطبة الأطفال باعتبارهم أصحاب المشروع القادم. يقول أرسطو إن العبيد لا ينتصرون. وحتى لو انتصر العبيد فسيكون شيئاً مخالفاً لقوانين الطبيعة. فماذا سيفعلون غير نشر مفاهيم العبودية؟ تحرير الإنسان من الجهل والفقر هو مقدمة لتحرير المكان والعالم. فليس من الممكن إقناع أحد في الكون بأحقية قضيتك ما دامت صورتك بشعة وممارستك وطريق عيشك بشعة. المجتمعات التي لا تستطيع أن تقدم نموذجاً جميلاً للعيش لا يحق لها أن تدخل عالم المثال. إنّ قراءة متأنية للإمام الصدر تجعل المتتبع لمجرى صيرورة الواقع شيئاً مؤلماً، فليس واقعنا أبداً على الصورة التي كان يراها عن بعد. الفاصل الزمني تعدى بضعة عقود ما بين حضور الإمام بيننا وبين غربته القسرية لكن المشهد وكأنّه على حاله وأحزمة البؤس تتنامى في عشوائية سرطانية. هناك خوف متزايد من انقلاب المفاهيم، من إدراك العالم على أنّه حلبة مصارعة تستخدم فيها الأجساد البشرية كعملة تبادل، من تدني القيمة البشرية وقيمة الحياة الإنسانية بالذات تحت شعارات ومفاهيم: الأيديولوجيا هي القداسة والإنسان في خدمتها. حينها تصبح طريقة العيش شيئاً غير ذي أهمية ما دامت الأجساد بحدّ ذاتها هي مشاريع موت وبالتالي يصبح المكان مجرد مستودع لأجساد في طريق رحلتها إلى القبور. يتلمس المحرومون هذه الحقيقة، يعاينونها على أجسادهم وفي وجوه أطفالهم. يعرفون تماماً أنّ طيف الإمام هو آخر أمل تبقى لهم ولذا يغضبهم مسّ القداسة أو مقاربتها باستهتار في برنامج تلفزيوني هزلي وهزيل وهذا شيء مفهوم.
في الصحيفة السجادية، أدعية ومآثر مروية عن الإمام علي بن الحسين زين العابدين، أنّ أحدهم سأل يحي بن زيد الشهيد: لماذا رأيت الناس أميَل إلى ابن عمك جعفر منك وإلى أبيك؟ فقال يحي: نحن دعونا الناس للموت وابن عمي يدعوهم للحياة والناس تحب الحياة وتخشى الموت. وفي دعوة موسى الصدر حياة وهي الحياة الكريمة. لا يمكن أن يعيش الإنسان في مستنقع من الجهل والبطالة والفقر ثم يدّعي الكرامة. الكرامة لا تنبت على حواشي البؤس، الجوع كافر. ليس أصدق من أمير المؤمنين حين قال: أينما ارتحل الفقر قال له الجهل خذني معك. هي حقائق كان يعيها قطعاً موسى الصدر وريث عدالة علي.
في غربة الغائب لا بدّ أن تستفيق فينا تلك الجذوة التي أوقدها وأن نتبع البوصلة فهي لا زالت تؤشر وستبقى إلى حين يعود... الغيّاب لا يموتون.
* كاتب لبناني