«هو الحي في أمة متخمة بالموت والموتى»
لمناسبة الذكرى السادسة والأربعين لرحيله، قد يبدو الحديث عن جمال عبد الناصر تذكاراً للماضي، وتمجيداً لرجل فذ أعطى لأمته وللإنسانية جمعاء الكثير. أو قد يبدو الحديث عنه اليوم محاولة لإنصاف رجل ظلمه كثيراً أعداؤه، وظلمه أكثر أولئك الذين انتسبوا إليه أو إلى حركة التحرر العربية من دون أن يكلفوا أنفسهم عناء فهم عبد الناصر والأسس التي قام عليها مشروعه من أجل التحرر الوطني والنهضة القومية. هؤلاء جعلوا منه أسطورة هبطت على الأمة من خارج مدارات تاريخها، كنيزك جاء من المجهول، أضاء سماءنا برهة ثم انطفأ في المجهول. ذلك بسبب عجزهم – أو ربما لتبرير عجزهم – عن حمل القضية التي حملها الرجل بوعي وشجاعة وتفان وإيمان.
حديثي عن جمال عبد الناصر اليوم ليس من قبيل الوفاء للرجل، أو الحنين لحقبة من تاريخ أمتنا كان هو بطلها، وقد عشتها طفلاً وولداً وفتى، يوماً بيوم وساعة بساعة، ولا يزال وجهه بعد ست وأربعين سنة على غيابه، مشرقاً في قلبي ووجداني، وفي أروع سني عمري وأكثرها خصباً وثراء وعزة وأملاً. أنا اليوم لا أتحدث عن ماضٍ انتهى وعن كبير رحل، بل أتحدث لغد أرى فجره يطل من بين كل أكداس العتمة التي تلفنا، ولأمة أؤمن أنها سوف تشق طريقها من جديد نحو الحرية والكرامة والحياة.

■ ■ ■

إجراءات السادات كانت تمثّل خطوات مدروسة ضمن سياسة رسمتها وأدارتها واشنطن

في الذكرى الخمسين لثورة 23 يوليو استضافت إحدى الفضائيات المصرية الدكتور عزيز صدقي، الرجل الذي كلفه عبد الناصر إنشاء قطاع الصناعة في مصر في السنوات الأولى من عمر الثورة. وبالفعل فقد نفذ الرجل المهمة على نحو ممتاز، وعُدّ بحق أبا الصناعة المصرية. ثم تقلد مواقع رفيعة في الدولة، وصار رئيساً للوزراء مرات عدة.
في تلك المقابلة تحدث الرجل بإسهاب عن تجربته مع عبد الناصر. عن تكليفه تولي وزارة لم تكن قائمة وهي وزارة الصناعة، وعن المصانع الضخمة التي أقيمت في ستينيات القرن الماضي، وعن التحولات الاجتماعية في مصر آنذاك، والتي عُدّت بحق ثورة اجتماعية رائعة... وتحدث أيضاً عن تصفية تلك الانجازات بعد ذلك. عن المصانع التي جرت عمليات مشبوهة وقاسية لبيعها بأبخس الأثمان، والرشى الفادحة التي رافقت عمليات البيع، والرأسمالية الطفيلية التي نشأت وتورمت وطغت، وعن... وعن... ثم سألته السيدة التي أدارت الحوار معه: «وماذا عن الثورة بعد عبد الناصر»؟ ورد الرجل بحسرة وحزم: «انتهت الثورة. بعد عبد الناصر انتهت الثورة».
كنت أتابع ذلك الحوار في نبرات صوت عزيز صدقي وعينيه وحركات يديه. وانتظرت أن تسأله السيدة: «ولكن لماذا لم تبادر القوى صاحبة المصلحة في الثورة إلى الدفاع عن ثورتها وعن مصالحها فيها، وخصوصاً بعدما اتضحت مؤشرات الردة ومعالمها على طريق الانهيار؟»، لكن السيدة لم تسأل، وهو لم يجب. بعد سنوات أتيح لي أن التقيه، وعدت به إلى ذلك الحوار، وإلى السؤال الذي انتظرته في نهاية ذلك الحوار، وسألت... أطرق الرجل برهة، ثم هز رأسه وقال: «ما اعرفش».
في الحقيقة فإن الإجراءات التي نفذها الرئيس أنور السادات على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي لم تكن مجرد اجتهادات خاطئة أو خيارات انتقائية منعزلة عن مسار عام لسياسة القيادة المصرية الجديدة، مثّلت ارتداداً كاملاً عن أسس ثورة يوليو والخيارات الاستراتيجية التي قام عليها مشروع عبد الناصر. ففي موازاة الإجراءات الاقتصادية والاجتماعية تلك، ظهرت مؤشرات متلاحقة للانقلاب الشامل على أسس الثورة وخياراتها الاستراتيجية، لم يجرِ التوقف عندها بعمق ودراسة حقيقتها ومسارها واستقراء نتائجها، فاقتصرت المواقف منها – في أحسن الأحوال – على الاستنكار، وأحياناً الصراخ.
أول تلك المؤشرات كان طرد الخبراء العسكريين السوفيات من مصر، مع تعمد أن يتخذ الطرد معنى الإهانة والاستعداء. تلاه بعد ذلك، وبالتحديد بعد حرب تشرين/ اكتوبر 1973، إعلان الرئيس السادات أن «99% من أوراق الحل في الشرق الأوسط بيد الولايات المتحدة الأميركية».
في الفترة نفسها بدأت تظهر علامات التحالف بين القيادة المصرية والنظم العربية والإقليمية المحافظة والمتحالفة مع الولايات المتحدة، وكان أبرزها اثنان: نظام الشاه في إيران والمملكة العربية السعودية. وبعد حرب تشرين/ اكتوبر1973 مباشرة، لم يكن مجرد زلة لسان إعلان الرئيس السادات أن تلك الحرب هي آخر الحروب بين مصر وإسرائيل. وكذلك لم يكن مجرد زلة لسان إعلانه بعد ذلك، وفي خطاب له في مجلس الأمة، نيته الذهاب «إلى آخر الدنيا، وحتى إلى القدس، من أجل السلام».
وبالتزامن مع إعلان تحالفاته الجديدة مع القوى المحافظة والمتحالفة مع أميركا، كانت السلطة المصرية الجديدة تقطع علاقاتها مع القوى التقدمية العربية والعالمية، المناهضة للاستعمار الجديد الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية. وقد كانت ثورة يوليو، تحت قيادة جمال عبد الناصر، قد بذلت جهوداً مضنية ومثمرة لإقامة وتوطيد العلاقات مع هذه القوى كجزء من سياسة المواجهة مع الغرب.
لا بل ربما كان من أولى المؤشرات على تلك التحولات مبادرة السادات بعد توليه منصب الرئاسة إلى اتخاذ لقب «الرئيس المؤمن». هل كان ذلك تمييزاً لنفسه عن سلفه «غير المؤمن» العروبي الاشتراكي؟ أم كان ذلك مؤشراً على الاستعانة بالقوى «المؤمنة» التي ناصبت الثورة العداء من اليوم الأول من أجل تصفية الثورة ومواجهة أولئك الذين «يلبسون قميص عبد الناصر»؟
في هذا السياق جاءت سياسة «الانفتاح»، والانقلاب على «اشتراكية الفقر»، وتدمير القطاع العام وبيع مصانعه بسعر «الخردة»، والتأسيس للتشوهات الاجتماعية الخطيرة ولسيطرة رأس المال على الحكم.
قلت كانت الإجراءات المتسارعة التي اتخذها الرئيس السادات، تبدو للكثيرين مجرد اجتهادات خاطئة، أو انفعالات وردات فعل متهورة لرجل وصل إلى قمة السلطة في مصر وسط ملابسات لا تزال تثير الكثير من الأسئلة والتساؤلات حولها كما وحول ظروف وفاة عبد الناصر، غير أن الإجراءات تلك كانت في الحقيقة تمثّل خطوات مدروسة وحلقات مترابطة في سياسة شاملة ومتكاملة، رسمتها وأدارتها الولايات المتحدة الأميركية. وكان الرئيس السادات يدركها جيداً، ويدرك خطورتها كما وخطرها عليه شخصياً ما جعله يوكل أمنه الشخصي لفريق تابع للاستخبارات المركزية الأميركية.
في 23 تموز/ يوليو 2002، كنت في مصر، بدعوة من الإخوة في «حزب الكرامة»، أشارك في احتفالاتهم بالذكرى الخمسين للثورة. وكنت قبل ذلك بفترة وجيزة قد تابعت حلقات مشوّقة من برنامج «شاهد على العصر» للإعلامي المعروف أحمد منصور، الذي استضاف في تلك الحلقات السيد حسين الشافعي. أعجبت جداً بالرجل، بجرأته، وأمانته، ووضوحه، وانتمائه الصادق للثورة التي شارك فيها ضابطاً ورجل دولة. اغتنمت فرصة وجودي في مصر واتصلت به، فردت السيدة زوجته وقالت إنه غير موجود في المنزل لأنه كان يشارك في احتفال شعبي في أحد أحياء الاسكندرية. كان السيد حسين الشافعي قد رفض المشاركة في احتفال رسمي نظمته الدولة وحضره الرئيس حسني مبارك والعقيد معمر القذافي، ورفض قبول وسام تكريم بالمناسبة. عندما عاد إلى المنزل وأخبرته السيدة زوجته اتصل بي وحدد لي موعداً في اليوم التالي في الاسكندرية. ذهبت إليه برفقة ثلاثة أصدقاء كان من بينهم الرفيق أبو أحمد فؤاد، الذي يشغل اليوم منصب نائب الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
استقبلنا الرجل في استراحته المتواضعة، المتواضعة جداً، بقامته الشامخة، وملامحه القوية، وصوته الأجش، وتواضعه الرائع الكبرياء. سألناه كثيراً وأجاب واستفاض... كيف فاتحه عبد الناصر بأمر الانقلاب على الملك فاروق، دوره في الانقلاب كضابط في سلاح المدرعات، صفقة الأسلحة التشيكية، العدوان الثلاثي، السد العالي، الوحدة والانفصال، الإصلاح الزراعي والتصنيع الخ... الخ. وعندما كان يفرغ من الحديث عن كل إنجاز من تلك الإنجازات الرائعة كان أحدنا يسأل: ومن فعل هذا؟ جمال. وحده جمال كان يقول. سألناه عن النكسة. تحدث كثيراً واستفاض... وانتهى إلى القول «كانت حرب 1967 مؤامرة عالمية ضد جمال». تحدث عن دور شمس بدران وانتحار المشير عبد الحكيم عامر. وعن استقالة «الريس» وعودته عن الاستقالة. وتحدث أيضاً عن الجهود المضنية التي «تفوق طاقة البشر» كما قال، والتي بذلها جمال من أجل إعادة بناء القوات المسلحة والاستعداد للحرب. وسأله أبو أحمد فؤاد: «ولكن كيف عيّن عبد الناصر أنور السادات نائباً لرئيس الجمهورية وكيف ارتكب هذه الغلطة»؟ وروى السيد حسين الشافعي حكاية السادات من ليلة الثورة عام 1952، وقصة ذهابه إلى السينما وافتعال شجار هناك، إلى استبعاد السادات عن المجلس الرئاسي الذي ألّفه عبد الناصر بعد الانفصال، الذي ضم كل أعضاء مجلس قيادة الثورة ما عدا أنور السادات، إلى دوره في اليمن وعلاقته بكمال أدهم، إلى زيارته الولايات المتحدة الأميركية عام 1965 إلى يوم تعيين أنور السادات نائباً لرئيس الجمهورية عام 1969.
«هل كان الأميركان هم الذين ضغطوا على عبد الناصر لتعيين أنور السادات نائباً لرئيس الجمهورية»؟ سأل أبو أحمد فؤاد.
أبداً. قال حسين الشافعي. «لا أحد كان يقدر أن يضغط على عبد الناصر. أعتقد أنهم كانوا الروس، هم الذين تمنوا عليه نتيجة مؤامرة غبية رتّبها علي صبري وجماعته من أجل إبعادي أنا، وظناً منهم أنّ السادات ضعيف يمكنهم إزاحته متى يشاؤون». ثم انتهى إلى القول «كيف اكتشف في أواخر عام 1973، أن السادات كان عميلاً للاستخبارات الأميركية، وأن عمالته بدأت عبر كمال أدهم رئيس الاستخبارات السعودية في الستينيات، عندما كان مسؤولاً في اليمن. ثم جرى تثبيت علاقته بالاستخبارات المركزية الأميركية عندما زار الولايات المتحدة الأميركية عام 1965».
لقد عاد السيد حسين الشافعي وأكد هذه التهمة علناً غير مرة. ما دفع السيدة جيهان السادات إلى التهديد بإقامة دعوى قضائية ضده، ولا أحد يعرف اليوم ماذا حل بالدعوى تلك.
بصرف النظر عن صحة هذه التهمة، وهي برأيي صحيحة، فإن ما جرى تنفيذه في عهد الرئيس السادات، في شتى المجالات، كان تنفيذاً لسياسة أميركية شاملة هدفها القضاء على ثورة يوليو ومشروعها للتحرر الوطني والنهضة العربية. أما عن نتائج تلك السياسات، فإن واقع مصر اليوم، وواقع الأمة العربية اليوم، يجيبان على نحو صارخ ومؤلم عن هذا السؤال.
لكن، وبالرغم من مرارة واقعنا اليوم، نستطيع أن نقرأ بدقة من خلاله وبعمق مشروع ثورة 23 يوليو، أو بالأحرى مشروع حركة التحرر العربية في الماضي، وأيضاً في المستقبل.

■ ■ ■


خلال القرنين الماضيين شهدت المنطقة تجارب ثلاث لإقامة «الدولة العربية».
كانت الأولى في بدايات القرن التاسع عشر، بعد الحرب الأوروبية الكبرى، مع محمد علي الذي حاول عن طريق محاكاة الغرب والمضاربة على تناقضات القوى العظمى في عصره.
وكانت الثانية بعد الحرب العالمية الأولى مع الشريف حسين، الذي حاول، ولكن تحت مظلة الغرب، وبوهم إمكانية المواءمة بين مشروع الدولة العربية ومصالح الغرب في هذه المنطقة.
وكانت الثالثة مع جمال عبد الناصر بعد الحرب العالمية الثانية، الذي حاول، ولكن في مواجهة الغرب، في مناخات الانقسام العالمي بين القوى الكبرى، الذي اتخذ في جانب منه طابع الصراع الأيديولوجي. وفي مناخات التحرر الوطني التي هبت رياحها على عالم المستعمرات القديمة.
بماذا تميز جمال عبد الناصر وثورته عمن عداه وعداها من الزعامات والحركات القومية والتقدمية في أمتنا التي سبقته أو عاصرته أو جاءت بعده؟
بأنه كان صاحب مشروع لا مجرد صاحب دعوة.
خلافاً لجميع القوى الوطنية والقومية والتقدمية العربية التي كانت قائمة آنذاك، قرأ عبد الناصر عصره، عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية كما هو، تناقضات القوى الكبرى وصراعاتها، الحركات التحررية الناشئة وموجة الاستقلال التي بدأت تجتاح عالم المستعمرات القديمة، تناقضات القوى الاستعمارية الغربية وتقدم الولايات المتحدة الأميركية لتزعم جبهة الاستعمار ووراثة إمبراطوريات الاستعمار القديم. إسرائيل حقيقتها ودورها وموقعها في المشروع الغربي للسيطرة على الأمة العربية. قرأ كل ذلك وغيره بعقل علمي وواقعي مجرد، لا برؤية سلفية ولا بتخيلات لا تمتّ إلى حقائق العصر بصلة. قرأه بعمق ومسؤولية لا بارتجال خطابي. في ضوء هذه القراءة العلمية حدد خياراته الاستراتيجية في شتى المجالات وعلى جميع الصعد. وبالاستناد إلى هذه الخيارات وضع مشروعه من أجل التحرر والتقدم.
ولقد حدد خياراته الاستراتيجية على النحو الآتي:
1ــ على الصعيد الدولي:
أــ إخراج مصر من حالة التبعية للغرب، والانفتاح على المعسكر الاشتراكي من خلال تمسكه بثنائية عدم الانحياز والحياد الإيجابي.
ب ــ إقامة أوثق العلاقات مع البلدان الحديثة الاستقلال وحركات التحرر الوطني في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية. وكان من نتائج هذه السياسة جعل مصر عضواً أصيلاً ومتقدماً في المجموعة الأفروآسيوية (باندونغ) سنة 1955 ثم مجموعة عدم الانحياز (بلغراد) سنة 1961. وصارت مصر مركزاً لتلاقي حركات التحرر الوطني في العالم، حيث قدّم جمال عبد الناصر كل أشكال الدعم لهذه الحركات في نضالها ضد الاستعمار.
كانت حركة عبد الناصر في هذا المجال جزءاً من استراتيجية المواجهة مع الغرب الاستعماري. كان يسعى لأن يمثّل هذا التكتل جبهة عالمية في مواجهة الاستعمار، وأن يحيط مصر بكتلة من الحلفاء تؤازرها في هذه المواجهة. وكان يعمل لأن تكون حركات التحرر الوطني في المستعمرات وفي البلدان التابعة للاستعمار ثورة شاملة ومتواصلة ترهق الاستعمار وتستنزفه وتجبره على التقهقر.
إذاً كان خياره الاستراتيجي الأول في عالم ما بعد الحرب التحالف مع المعسكر الاشتراكي، وإنشاء كتلة عالمية ثالثة، قال عنها نهرو إنها «ضمير هذا العالم». وبذلك حدد عبد الناصر موقع مصر ودورها في الصراع العالمي آنذاك.
2ــ على الصعيد الإقليمي:
كان التحدي الأول الذي واجهه عبد الناصر هو مشروعات الأحلاف الغربية في المنطقة. كانت الولايات المتحدة الأميركية تسعى إلى تطويق المعسكر الاشتراكي بسلسلة من الأحلاف: «الناتو» في الغرب، و«السياتو» في الشرق، و«السانتو» في الوسط، أي في هذه المنطقة «الشرق الأوسط». وقصته مع جون فوستر دالاس وزير الخارجية الأميركي في عهد آيزنهاور عندما جاء إلى مصر في آذار 1953 معروفة.
إذاً كانت استراتيجية الغرب في المنطقة إقامة نظام إقليمي تابع للغرب، يمثّل واحدة من حلقات الحصار ضد المعسكر الاشتراكي. وكان الخيار الاستراتيجي الذي اختاره عبد الناصر هو مقاومة هذه الأحلاف ومقاومة النظام الإقليمي للشرق الأوسط التابع للغرب الاستعماري، وإقامة نظام إقليمي عربي من أجل ضمان الأمن القومي العربي وتحقيق التكامل الاقتصادي في إطار الجامعة العربية. ولهذا دفع إلى وضع ميثاق الدفاع العربي المشترك واتفاقات التعاون الاقتصادي. وكانت عينه دائماً على إسرائيل، ووظيفتها في خدمة الاستعمار الغربي الذي أنشأها، ودورها في المنطقة لجهة تهديد الأمن القومي المصري والعربي، وتفتيت الأمة العربية ومنع تحررها ووحدتها وتقدمها.
بالنسبة لموضوع إسرائيل والقضية الفلسطينية فقد كان الانقسام العربي بشأنها واضحاً منذ قيام ثورة يوليو، وبالتحديد منذ أن سيطر عبد الناصر بالكامل على الحكم بعد أزمة مارس/ آذار 1954 الشهيرة.
كانت هناك وجهتا نظر في هذه المسألة. وكان أبرز المعبرين عن وجهتي النظر آنذاك نوري السعيد من جهة، وجمال عبد الناصر في الجهة المقابلة.
من دون الغرق في النعوت: الوطنية والخيانة والتقدمية والرجعية والخ... فقد كانت وجهة نظر نوري السعيد وسائر الحكومات العربية المحافظة تتلخص بالآتي: «صحيح أن إسرائيل تمثّل خطراً على الأمة العربية وتهديداً دائماً لها. غير أن التصدي لهذا الخطر يكون عن طريق الانضواء تحت مظلة الأمن الغربية التي توفرها مشروعات الأحلاف التي كانت مطروحة». وكانت وجهة نظر عبد الناصر «أن مواجهة هذا الخطر تفترض بناء القوة العربية، والتحالف مع القوى العالمية التي تواجه الغرب الاستعماري، وفرض الحصار على إسرائيل لتعطيل دورها ما يؤسس لتحرير فلسطين وإزالة هذا الكيان». كان هذا من بين أبرز الخيارات الاسترتيجية لجمال عبد الناصر الذي بنى عليه سياسات كسر احتكار السلاح ومطاردة النفوذ الإسرائيلي في أفريقيا، ومقاطعة إسرائيل ومنعها من التغلغل في البلاد العربية اقتصادياً وسياسياً وثقافياً.
لقد كانت الصراعات التي فرضت عليه أو بادر هو إلى فرضها مع القوى العربية «المحافظة» حول مسائل النظام الإقليمي والأحلاف وإسرائيل والقضية الفلسطينية هي التي طورت رؤيته إلى موضوع الوحدة العربية، وإلى ضرورة جمع القوى الوطنية والتقدمية في الوطن العربي في جبهة توحد جهودها ضد الاستعمار، وفي مواجهة القوى «المحافظة» التي كانت رؤيتها إلى مسألة «الأمن القومي» مناقضة بالكامل لخياره الاستراتيجي هذا.
3ــ التنمية المستقلة وإعادة بناء المجتمع
الحديث في هذا الجانب شائك ومعقد، وهو حديث يطول، ولا يمكن الغوص فيه الآن، لذلك أكتفي بالآتي:
كان عبد الناصر يدرك أن الصراع من أجل التحرر الوطني يفرض بالضرورة إعادة بناء المجتمع بما يجعله قادراً على خوض هذا الصراع وتحمل أعبائه وتكاليفه. كذلك كان يدرك ضرورة محاصرة وإضعاف الطبقات المرتبطة مصالحها بالاستعمار وتجريدها من أدوات سيطرتها على الحكم. أما على الصعيد الاقتصادي، فإن تحرير الاقتصاد الوطني من التبعية للرأسمالية العالمية، وتحقيق التنمية المستقلة، من أهم شروط التحرر الوطني الشامل.
في ضوء هذا الهدف، «التحرر الوطني»، لا في ضوء نظريات، بل مقولات وشعارات جامدة، كان الدافع إلى إطلاقها التعصب والتلهي بالمناكفات العقيمة بين فلاسفة «الاشتراكية العلمية» وفلاسفة «الاشتراكية العربية»... في ضوء هذا الهدف يمكن فهم الإجراءات الاقتصادية – الاجتماعية لثورة 23 يوليو/ تموز. من الإصلاح الزراعي وقوانينه المتتابعة، إلى تمصير المصالح الأجنبية، إلى التأميم، إلى التصنيع والتعليم، إلى...

كان التحدي الأول الذي واجهه هو مشروعات الأحلاف
الغربية في المنطقة

■ ■ ■


في عام 1981 – لا أذكر بالضبط التاريخ – التقيت في باريس لأول مرة الرئيس أحمد بن بلة. كان قد خرج من الجزائر بعد سنوات سجنه الطويلة لكي يؤدي فريضة الحج، ومن هناك ذهب إلى فرنسا. كنت أنتظره بشغف ولهفة في غرفة متواضعة لصديق مشترك تولى ترتيب اللقاء. رحت أتخيله قبل وصوله عجوزاً محطماً تحت وطأة سني العمر وسني السجن، وإذا به يفتح الباب ويدخل بخطوات قوية، مبتسماً، صافحني... ما شاء الله، لم يتغير فيه شيء منذ أن رأيته آخر مرة في التلفاز سنة 1964، في مؤتمر القمة العربية الذي دعا إليه عبد الناصر. وبسرعة خاطفة أسقط الرجل كل الحواجز والفوارق بينه وبيني، وبدأ الحديث.
سألته، وتحدث كثيراً... عن الجزائر وفرنسا ومصالي الحاج ورفاقه الذين كانوا معه عندما نفذوا أول عملية مسلحة ضد الاحتلال. وعن السجن وهروبهم من السجن ولقائه الأول مع عبد الناصر... ثم تحدث عن رجالات ذلك العصر، أبطال حركات التحرر الوطني، موديبوكيتا وكوامي نكرونا وأحمد سوكارنو، وعن نيكيتا خروتشوف وشوان لاي وغيفارا وكاسترو وآخرين... وسألته: لماذا فشلتم؟
ـ من؟
ــ كلكم... حركة التحرر الوطني العالمية، لماذا فشلت في متابعة مسيرتها نحو أهدافها الوطنية الكبرى، ولماذا سقط أبطالها الواحد تلو الآخر.
فكّر قليلاً وقال:
ربما كانت هناك ثلاثة أسباب أو عوامل رئيسية. أولها هي أن حركات التحرر الوطني، بعدما طردت الاستعمار، كانت بحاجة لأن تتعلم الكثير. كيف تبني دولة الاستقلال. كيف تواجه ذلك الإرث الهائل من المصائب التي خلفها لنا الاستعمار. كيف تتصدى لمشكلات التخلف والفقر والأمية و... كنا بحاجة لأن نتعلم، ولكن الاستعمار لاحقنا بمعارك متواصلة فرضها علينا على كل الجبهات وفي جميع الميادين. لم تتوافر لنا إمكانية أن نقاتل في جميع المعارك طوال الوقت وأن ندرس ونتعلم.
والسبب الثاني هو أننا فشلنا (كان يقصد قوى التحرر والاشتراكية) في إنتاج نظام عالمي يواجه نظام الرأسمالية العالمي.
أما السبب الثالث – صمت برهة ثم قال – فكان الشعب معنا، يؤيدنا ويصفق لنا، لكننا فشلنا في تحويل التأييد إلى مشاركة فعلية، وفي تحويل التصفيق والهتاف إلى عمل وكفاح. كانت الأزمة في كيفية بناء التنظيم السياسي الملائم لاستكمال الثورة وبناء الدولة...
ثم قال: ولكن أنتم، ماذا تفعلون؟ وكان يقصد القوى العربية الوطنية التقدمية. من هذه النقطة انتقلنا إلى موضوع ظل النقاش حوله محور جميع لقاءاتي اللاحقة معه. أزمة القوى الوطنية، وكيف يمكن إعادة بناء حركة التحرر العربية.

■ ■ ■


«انتهت الثورة. بعد جمال عبد الناصر انتهت الثورة». هكذا جزم الدكتور عزيز صدقي. وقد كان ما قاله صحيحاً، ليس في مصر وحدها ولكن في الأمة العربية كلها أيضا. كانت ثورة 23 يوليو ثورة عربية بامتياز، من أجل حرية الأمة العربية ونهضة الأمة العربية ووحدة الأمة العربية.
أما بالنسبة لقوى الثورة العربية، الأحزاب والمنظمات الوطنية التقدمية، فقد كشف غياب عبد الناصر حقيقة قصورها... حقيقة تخلف وعيها السياسي، وعجزها عن استئناف مسيرة الثورة العربية بعد رحيل قائدها.
منذ 28 أيلول/ سبتمبر 1970 توالت أحداث كثيرة في أمتنا وفي العالم، وحصلت متغيرات هائلة. كانت رؤية هذه القوى لكل تلك الأحداث والمتغيرات سطحية جداً ومشوشة وضبابية. وكانت مواقفها منها تتسم بالكثير من الارتباك والانفعالية. وغلب على أدائها التخبط والفوضى، وفي أحيان كثيرة الانتهازية.
الأمثلة كثيرة. من موضوع «السلام» مع الكيان الصهيوني، إلى انهيار المعسكر الاشتراكي وطبيعة الحقبة التي تلت ذلك الانهيار، إلى الحرب العالمية التي تدور رحاها اليوم في طول العالم وعرضه. وتدور أشرس معاركها في المنطقة العربية. التكتلات التي تشكلت في خضم هذه الحرب العالمية، «شنغهاي» و«البريكس» إضافة إلى «الناتو»، والقوانين التي تحكم صراعاتها. «الفوضى الخلاقة» والمشروع الأميركي – الصهيوني لـ«الشرق الأوسط الجديد». غزو العراق، ثم هذا «الربيع العربي» الذي يكتب فصوله على أرضنا بالحديد والنار والدم. سوريا واليمن وليبيا وفلسطين والسودان، وفي القلب منها مصر...
في الحقيقة فإن أزمة الأمة العربية اليوم هي بالتحديد أزمة القوى الوطنية التقدمية العربية.
إنها، بتخلف وعيها السياسي وعجزها عن استنهاض مسيرة الثورة العربية بعد رحيل قائدها، استعاضت بالشعار عن المشروع، وانكفأت عن دورها في قيادة الشعب نحو أهدافه القومية العليا في التحرر والاشتراكية والوحدة، وتركت هذا الموقع للقوى الأكثر رجعية وتخلفاً وتبعية.
في ذكرى رحيل جمال عبد الناصر. وبعد ست وأربعين سنة من التقهقر والانكسارات والتخبط، لقد آن الأوان لكي نتعلم منه كيف نصوغ مشروعاً جدياً وعصرياً للنضال العربي من أجل الحرية، لنعمل بعد ذلك على إعادة إنتاج حركة تحرر عربية قادرة على حمل المشروع.
1 ــ أن نقرأ عالمنا كما هو، حركة الصراع فيه وقوانينها، التكتلات المنخرطة في هذا الصراع وميادينه.
2 ـ أن نحدد خياراتنا الاستراتيجية فيه. موقعنا من التكتلات الكبرى المنخرطة في هذا الصراع العالمي. النظام الإقليمي لـ«الشرق الأوسط» في المشروع الأميركي وكيف نتصدى له. رؤيتنا إلى النظام الإقليمي المواجه الذي يوفر لأمتنا أمنها القومي ووضعها من جديد في قلب العصر على طريق التحرر والتقدم والوحدة.
3 ــ موضوع الجبهة العربية القادرة على صوغ المشروع العربي الحديث، وتعبئة طاقات الشعب في كفاح عنيد وجاد ورصين من أجل تحقيق الأهداف العليا للأمة.
هذا بالضبط ما بادرت إليه قوى وطنية وتقدمية عربية في إطار «الجبهة العربية التقدمية» التي تأسست في 15 أيار/ مايو 2016. ولعلها في هذا تكون وفية لأمتها ولشعبها و... لجمال عبد الناصر.