ما حصل قبل أيام في بريطانيا قد يحصل مع أيّ دولة أوروبية تتخلّلها انقسامات عميقة اجتماعية وطبقية، وتضطرّ بسبب هذا الانقسام إلى التنازل والخضوع لعضوية اتحاد غير ديمقراطي كالاتحاد الأوروبي. هذا هو السياق الفعلي للتصويت بالخروج (brexit) وليس الخشية منه على أوروبا التي تقود مؤسّساتها البيروقراطية حرباً ضروس على أيّ صوت يعترض على إدارتها السيئة وغير التمثيلية لشؤون دولها الأعضاء، بما في ذلك أحزاب اليمين المتطرف التي تتقاطع طروحاتها أحياناً مع طروحات اليسار في ما خصّ معارضة سياسات التقشّف والحدّ من الإنفاق الاجتماعي. ضدّ بروكسل حصراً
بهذا المعنى فإنّ الموقف الاعتراضي الذي عبّرت عنه أكثرية بريطانية طفيفة لا يجب النظر إليه بالمقاييس التي تحاكم أحزاب اليمين المتطرّف على طروحاتها تجاه المهاجرين والأمن وقضايا الإرهاب، لأنّ الأساس هنا ليس الموقف من هذه القضايا التي تُعتبر آثاراً جانبية للسياسة الأوروبية الموحّدة وإنما القضية الاقتصادية الاجتماعية التي دفعت اليونان ثمنها سابقاً عبر معاقبتها على التمرّد المحدود والجزئي ضدّ سياسات بروكسل. اليونان أيضاً لديها مشكلة لاجئين وقد تكون أكبر من مشكلة بريطانيا مع الهجرة ولكنها ليست قضية محورية يمكن على أساسها تغيير السياسات الاقتصادية بالاعتماد على الاستفتاءات الشعبية. ما يهمّ هذه الدول الآن هو مدى الأثر الذي تتركه إملاءات بروكسل الاقتصادية على مجتمعاتها، ومن هنا فإنّ القضية الأساس الآن ليست في الموقف من الهجرة أو من صعود اليمين المتطرف وإنما في القدرة على مجابهة سياسات التقشّف وعدم تركها تعيث فساداً، عبر الانحياز المستمرّ للمصارف وأصحاب الرساميل على حساب الطبقات الوسطى والفقيرة. هذا ما حاولت النقابات الفرنسية وأحزاب اليسار فعله خلال الأشهر الماضية، عبر الاحتجاج المتواصل ضدّ قانون العمل الجديد، وقبلها كان ثمّة تظاهرات مماثلة في ايطاليا واسبانيا وبريطانيا ضدّ سياسات اقتصادية ليست متطابقة بالضرورة ولكنها تتقاطع كلّها في العمل على نيل رضى بروكسيل، ولو أدى الأمر إلى خروج الملايين في الشوارع اعتراضاً على تهميشهم اقتصادياً والنيل من مكتسباتهم ومدّخراتهم (معظم القوانين المقترحة تأتي على ذكر رفع سنّ التقاعد).

النفخ في اليمين المتطرف

هذا ما أدّى عملياً إلى تعميق الانقسامات داخل المجتمعات المذكورة، وجَعل القواعد التي كانت تصوّت تاريخياً لمصلحة يسار الوسط تتوجّه نحو اليمين المتطرف. طبعاً، لا يقدّم هذا الأخير في طروحاته حلولاً للمشاكل المطروحة ولكنه في الوقت نفسه يقترح على الناخبين الذين يتوجهون إليه نكاية بالأحزاب التي خذلتهم خطاباً معادياً بالمُطلق للمؤسّسات البيروقراطية الأوروبية التي تسبّبت بإفقارهم وتقهقرهم طبقياً واجتماعياً. هنا تحديداً تكمن جاذبية اليمين المتطرف، وليس في الموقف من المهاجرين كما يشيع البعض، فحين يقوم هذا الحزب المتطرّف أو ذاك بالدعاية لحملته الانتخابية سواء على مستوى البلديات أو الرئاسة أو البرلمان لا يستخدم في دعايته شعارات معادية للمهاجرين، وإنما يركز كما فعلت مارين لوبين في أكثر من مناسبة على «العداء لأوروبا». وحتى عندما تتطرّق الحملة إلى موضوع المهاجرين العرب أو الأفارقة أو الآسيويين أو... الخ لا يجري تحميل هؤلاء في الخطاب اليميني المتطرف سبب الأزمة الاقتصادية بل تُعتبر مشكلتهم نتاجاً لسياسات أوروبا، وتحديداً هنا ألمانيا التي اعتمدت سياسة «الباب المفتوح» من دون النظر إلى التبعات التي ستتركها على الاستقرار الاجتماعي في دول اللجوء وأوروبا عموماً. هذا الانضباط الجزئي في الخطاب لا ينعكس على سلوك القواعد الاجتماعية دائماً، ولكنه يعبّر عن تطّور ملحوظ في خطاب اليمين المتطرف الذي أصبح مضطراً في ظلّ قبوله باللعبة السياسية إلى تقديم تنازلات لا تعكس اقتناعه بما يقول بقدر ما تُظهر وعيه لأهمية الخطاب المنضبط وغير العنصري تماماً في عملية استقطاب طبقات اجتماعية جديدة لا تنتمي إلى محيطه المباشر. هذه الدينامية هي التي أفضت إلى صعوده المتدرّج في العملية السياسية وتحوُّله إلى رقم يصعب تجاهله في المعادلات السياسية المتغيرة التي تشهدها أوروبا حالياً. هو الآن، وبسبب هذا التحوّل الكبير يقود «بالاشتراك» مع اليسار الراديكالي عملية الاعتراض على السياسات الأوروبية التي تصوغها بروكسل وتمليها باستمرار على الدول الخاضعة لسلطتها. وحين ينجح في هذه الانتخابات أو تلك، أو في هذا الاستفتاء أو ذاك لا يكون نجاحه سبباً في تعميق الانقسامات داخل هذه الدول، لأنه ليس المتسببّ الأساسي بها. وإذا كان بالفعل يعمّق الكراهية داخل هذه الدول كما يقول البعض، فذلك لأنّ الإطار البيروقراطي وغير المُنتَخب الذي «يحظر نشاطه» حاصراً إياه بالاستابلشمنت هو الذي يوفّر له الشرط الملائم. حين تصبح أوروبا ديمقراطية فعلاً وتتيح لجميع المجموعات السياسية والاجتماعية داخلها فرصاً متساوية للوصول إلى الحكم ولا تعود وصياً على شكل إدارة الدول الأعضاء لمواردها المالية والاقتصادية يتضاءل حُكماً حجم اليمين المتطرف وتأثيره، ويعود ليس كما كان بالطبع - فأوروبا قد تغيرت في النهاية - ولكن على الأقلّ، لا يتحوّل - مثلما هو الآن - إلى قوّة الاعتراض الأساسية والكبرى على سياسات بروكسل وإملاءاتها. عندها قد نشهد انزياحاً جديداً لمصلحة اليسار الذي لا يزال بحكم امتلاكه أدوات التغيير المناسبة والمطابِقة للواقع المؤهّل أكثر من سواه لقيادة هذا الاعتراض، سواء ضدّ بروكسل واملاءاتها أو ضدّ قوى الفاشية الجديدة التي أعادت هذه الأخيرة تأهيلها وانتاجها.
* كاتب سوري