السوريون أمام أبواب الجحيم

  • 0
  • ض
  • ض

أسباب متعددة تكمن وراء ارتفاع سعر صرف الدولار. ضعف الإنتاج المحلي، وتراجع موارد الخزينة العامة من القطع الأجنبي، وارتفاع الطلب الداخلي على الدولار لتمويل المستوردات أو عمليات التهريب، وعدم وجود سياسات رادعة لشركات الصرافة، وهيمنة تجار السوق السوداء وأمراء الحرب، إضافة إلى أسباب أخرى مالية ونقدية تتعلق بالحكومة.

ويستدعي ذلك من «أصحاب القرار» تركيز جهودهم لعدم سقوط الاقتصاد في مطب الركود التضخمي، إذ «تزامن التضخم مع انكماش، وركود، وكساد». ويتطلب ذلك ضبط الإيرادات الوطنية والمستوردات، ووضعها تحت إشراف جهات حكومية متخصصة، إلى جانب تحفيز الاستثمارات الوطنية، ودعم الإنتاج المحلي وحمايته، وزيادة الإنفاق الحكومي، وتحفيز الطلب العام لتنشيط حركة السوق، وتخفيض المعدلات الضريبية عن الاستثمارات الوطنية التنموية.
وكذلك إلى تخفيض الضرائب المباشرة وغير المباشرة، عن المنتجين الصغار والفقراء وأصحاب الدخل المحدود، ووضع ضريبة تصاعدية على أرباح التجار، وحركة رأس المال، وتبادل العملات الأجنبية. لكن ارتباط مصالح النافذين مع مصالح حيتان السوق يحدُّ من اعتماد سياسات نقدية ومالية تُنقذ الاقتصاد من أزمته الراهنة، وذلك يهدد أمن السوريين المعيشي، وينذر بكارثة إنسانية شاملة.
وبعد تجاوز سعر صرف الدولار الواحد عتبة ستمئة وخمسون ليرة سورية وبقاء إمكانية ارتفاعه قائمة، يتساءل السوريون عن إمكانية انهيار الليرة، وتداعيات ذلك على أوضاعهم المعيشية، وعلى بنية المجتمع والاقتصاد والسياسة... وتحديداً في ظل استمرار الاستعصاء الذي يلازم مسار المفاوضات السياسية وتمّسك أطراف الصراع، وجهات إقليمية، وأخرى دولية، بخيار الحل العسكري. وجميعها تنبئ بمستقبل يخيّم عليه شبح الموت والدمار المحمول على مشاريع عقائدية، وانتماءات أيديولوجية عدمية وقاتلة. فاستمرار الصراع إضافة إلى الدور الوظيفي للأطراف المتصارعة، يندرج في إطار إعادة ترتيب وتوضيب دول ومجتمعات المنطقة وأنظمتها. وفي إطار المشروع المشار إليه تمثّل سوريا حجر الرحى، والمدخل إلى نظام إقليمي ودولي جديد.
حتى عام 2012، كان دخل الأسرة السورية يتراوح ما بين 400 و600 دولار. ومع ذلك كانت تعاني أزمة معيشية سببها سياسات نقدية ومالية تحريرية. أما الآن، فإن سقف الدخل لا يتجاوز، وفق سعر الصرف الحالي 75 دولاراً . فيما يعادل الحد الأدنى للأجور حوالى 24 دولاراً فقط. أما متوسط الدخل المقدّر بحوالى 28500 ليرة، فإنه يعادل حوالى 46 دولار. ويضع ذلك السوريين جميعاً أمام مصير مجهول. فحوالى 6.3 مليون مواطن يعانون انعدام حالة الأمن الغذائي، ونحو 9 ملايين شخص، مهددون بالانزلاق إلى دائرة انعدام الأمن الغذائي. وأكثر من 2.5 مليون عامل فقدوا مصدر دخلهم الأساسي، وقرابة 8 ملايين مواطن ينزحون عن منازلهم ومناطقهم.


بعد تجاوز الدولار الستمئة
وخمسين ليرة يتساءل السوريون
عن إمكانية انهيارها

إن ارتفاع الأسعار بنسبة تقارب عشرة أضعاف، وفقدان الليرة السورية لقيمتها الشرائية وارتفاع نسبة التضخم بما يعادل 450%، يفترض بأن لا يقل الحد الأدنى للدخل عن 184000 ليرة سورية وذلك حتى تتمكن الأسرة من تأمين حاجاتها الأساسية. لكن استمرار ارتفاع الأسعار، وتغوّل السياسات الاحتكارية، وجشع تجار الحروب، إضافة إلى غياب الرقابة والمحاسبة، يفرض على الحكومة القيام بإجراءات سريعة، وفاعلة، لسد الفجوة بين قيمة الدخل، ومعدل الإنفاق. لكنها عاجزة عن ذلك، لأنها فقدت معظم مصادر إيراداتها الريعية، والخدمية، وأيضاً الإنتاجية. وفي السياق تشير بعض التقديرات إلى تراجع إجمالي الناتج المحلي بنسبة 55%. بينما قيمة خسائر الاقتصاد تقدّر بحوالى 259.6 مليار دولار، في وقتٍ ما زالت فيه الحكومة تعتمد سياسات تحريرية عرجاء، يتحكم بها حيتان المال والتجارة. أيضاً فإن استمرار الصراع، وتصاعد العمليات العسكرية، في حلب، يُشكّل أحد أسباب ارتفاع سعر الصرف. إضافة لذلك، فإن ارتفاع تكاليف المعيشة يرتبط بالعقوبات الاقتصادية الخارجية، وتدمير ونهب المنشآت الإنتاجية، والموارد الاقتصادية الوطنية، وصعوبة نقل المنتجات بين المحافظات، وانخفاض سعر صرف الليرة مقابل الدولار، وتحرير أسعار السلع الأساسية المدعومة، واعتماد سياسات التمويل بالعجز.
من جهة أخرى، أشار المكتب المركزي للإحصاء، في وقت سابق من العام الماضي، إلى ارتفاع الرقم القياسي لأسعار المستهلك حتى عتبة 500%، ونحو 550% للأغذية. ويرتبط ذلك بارتفاع معدل التضخّم إلى أكثر من 450%، مقارنة بعام 2010.
في المقابل لم تشهد الرواتب والأجور زيادات حقيقية من شأنها ردم الفجوة الحاصلة بين الدخل والإنفاق. وبحسب تقديرات سابقة لمكتب الإحصاء المركزي، فإن متوسط الإنفاق الشهري للأسرة السورية عام 2010، كان يتراوح بين 31500 و42000 ألف ليرة سورية. مقابل أجور تراوحت بين 9975 و18500 ألف ليرة سورية.
حينذاك، أُثيرت جملة تساؤلات عن الوسائل التي اعتمدها السوريون لسد الفجوة بين دخلهم الشهري وتكاليف حاجاتهم الأساسية؟ وبفرض استمرار النمط الاستهلاكي على ما كان عليه، فإن متوسّط إنفاق الأسرة السورية، وفقاً للأسعار الحالية، يفترض أن يكون الحد الأدنى للدخل 155000 ألف ليرة شهرياً. لكن متوسط الأجور لم يتجاوز حتى اللحظة 27500 ألف ليرة شهرياً، في وقت أكّد فيه «المركز السوري لبحوث السياسات» أن معدّل الفقر العام في نهاية 2015 سوف يسجل نحو 85,2%، والفقر الشديد نحو 69,3%، والفقر المدقع نحو 35,1%.
وفي السياق أظهرت دراسة اقتصادية مؤخراً أن حاجة الأسرة السورية المكونة من 5 أشخاص، تُقدّر بحوالى 142500 ألف ليرة، كحدّ أدنى شهرياً، للبقاء على خط الفقر العالمي، وذلك وفقاً لمعايير الفقر العالمية التي حدّدها «البنك الدولي» بـ1.90 دولار للفرد الواحد في اليوم. لكنَّ تراجع سعر صرف الليرة مقابل الدولار بمعدل أربعة عشر ضعف، يدلّ على أن متوسط الدخل الأسرة المكونة من خمسة أشخاص يجب أن يكون 399000 ألف ليرة سورية، حتى تعيش بنفس المستوى الذي كانت تعيش فيه قبل 2011.
من جهة أخرى، أشار «البنك الدولي»، في تقرير سابق، إلى تراجع احتياطي «المصرف المركزي السوري» إلى 700 مليون دولار، وتراجع إجمالي الناتج الداخلي بنسبة 19% في 2015. وتوقع أن يشهد 2016 تراجعاً بنسبة 8%. وأشار أيضاً إلى ارتفاع العجز في الموازنة من 12 % من إجمالي الناتج الداخلي خلال الفترة بين 2011 و2014 إلى 20 % في 2015، وفي عام 2016 إلى 18%.
وأشار أيضاً إلى تراجع العائدات النفطية من 4.7 مليار دولار في عام 2011 إلى 0.14 مليار دولار عام 2015. ومن المعلوم أن «داعش» وفصائل مسلّحة أخرى تسيطر على القسم الأكبر من الإنتاج النفطي، بغض النظر عن صحة الأرقام التي تُصدرها التقارير الدولية، وبشكل خاص «البنك الدولي». لكنها تشير إلى خطورة الأوضاع نتيجة خروج مصادر الثروة من كنف الدولة، وتوقف عجلة الإنتاج بشكل شبه كامل، وانهيار قيمة الليرة أمام الدولار، وتراجع حاد في الاحتياطي من القطع الأجنبي. وجميعها عوامل وأسباب يفترض بالخروج منها الانتقال إلى سياسات مالية، ونقدية، مختلفة يشارك فيها خبراء ونخب وطنية يتمتعون بالنزاهة. غير أن استمرار الصراع يهدد بانهيار أي من تلك الحلول. وذلك يستدعي بالضرورة إيجاد حلول جذرية لقضية الصراع، ولن يكون ذلك منفصلاً عن المستوى السياسي، الذي يشكّل البُعد الحقيقي لما يحصل في سوريا.
فتداخل وتشابك مصالح دول كبرى وأخرى إقليمية في سوريا وغير دولة عربية يزيد من تعقيد المشهد العام، ويساهم في إغلاق الأبواب أمام محاولات إنهاء الصراع. وهو يُنذر بمآلات كارثية تهدد عالمنا العربي. ويستلزم ذلك من السوريين، جميعاً ومن دون استثناء أحد، البحث عن آليات سياسية، واجتماعية، وثقافية، واقتصادية، تخفف من تداعيات الأزمة، وتفتح الأبواب على حلول أخرى جذرية.
* كاتب وباحث سوري

0 تعليق

التعليقات