تابعت قلمه في الأهرام لسنوات ست، إلى أن توقف بغتةً عن الكتابة ربيع ١٩٧٢، وبدأ الإعداد لرحلة العمر إلى الولايات المتحدة. هناك عرفته عن بعد لسنوات، ثم عن قرب لعقود، كان أكثرها حميمية ما قبل «الربيع» منها. فيها لم يتوقف الحوار برهة، وعبره تلمّست زوايا ظليلة من التاريخ الحديث كانت له فرصة أن يكون وسط صانعيها، وكان في كل الأوقات خير جليس.
بينه وبين الراحلة هالة كان لأنجالنا في واشنطن والدان، بكل ما عنت الكلمة من معانٍ، وفي منزلنا هناك دارت الأحاديث حول كل شيء، وبصراحة يتفاداها على المنابر وفي التجمعات، وهو العاشق المتيّم بالأولى والمحبور دوماً وسط الثانية.
نقاط ارتكازية ثابتة في الحوار كانت: فلسطين وعرب أميركا وعبد الناصر وهيكل والصراعات العربية والإقليمية، وفي رحلة بندولية بين التاريخ والحاضر. مزج بين الواقعية والمثالية في كأس من المبدئية غرف منها حتى الثمالة وصاح: كاسك.
مبدئيته تلك كانت عروبيته، وهنا كان التلاقي فاهماً... كان يوافقني ويزيد في أن العروبة ضرورة حياة قبل ما هي حاجة نماء، وأنها جيوستراتيجيا لا أيديولوجيا، وأن غلالات الرومانسية التقليدية طحن ماء، لكنه كان عصياً على تقبّل مفهوم الفرز بين رسمية تبعوية وأمة تروم الانعتاق، بقناعة أن ما أصفه بالتبعوي لا بد أن يرى النور مع اطرّاد تنبهها.
كان عصيّاً على تقبّل مفهوم الفرز بين رسمية تبعوية وأمة تروم الانعتاق
ولكم تناولنا تجربة عبد الناصر بالتقييم تشريحاً ونقداً، وهو الذي عرفه، بل وعرف حوله أشكالاً مثل عبد الحكيم عامر وأنور السادات، ولكن ببصيرة أنه كان تعبيراً تاريخياً عن توق أمة الى التغيير، وأن من عاداه – لا من انتقده أو خالفه - كان عدو أمته.
كانت طرافته أخاذة... ذات يوم دعاني على معجنات في كافيه «واشنطوني» هادئ ليسأل: لا أتذكر وقائع ربيع ١٩٦٣ لجهة الخلاف بين عبد الناصر والبعث، إلا أنه قد كان لي دور وساطة فيه، فهل لك أن تعين؟ كانت حدقتاه تتسعان وأنا أذكره بالمهدي بن بركة وسعيه الحثيث في مايو وحزيران إلى رتق الفتق المتسع بين الطرفين، وصاح: تلك هي، أنا كنت معه في ذلك السعي. مضت سنتان وإذا به يقول: أنت عالم بما أخطه من مذكرات توشك الآن على الاكتمال، لكن هناك ثغرة لا أعرف لها سداً إلاك، فقلت: «أحلام سعادتك أوامر»، فقال: ١٩٦٣... قلت: أنت كنت من كارهي الشقاق الناصري ــ البعثي، أليس كذلك؟ قال: نعم، منه أتى خراب البين. قلت: عندي أن هذا سبب إصرارك على نسيان ما حدثتك به أول مرة، فاستعادني ثم صاح: نعم نعم، ولك مني حلوان الإعادة.
ولعل أصعب موقفين واجهاه كانا أزمة الكويت – ١٩٩٠ وهجمات ١١ أيلول ٢٠٠١: في الأولى، لم يفعل إلا ما اتسق مع مبدئيته وقناعاته... وهي التي تأبى أن يكون صاحبها مطية لتبعٍ استعانوا بالأجنبي على أحمق، وفي الثانية أدرك أن بيئته العربية في الولايات المتحدة قد أدخلت إلى نفق معتم طويل يضعها بين مطرقة أفعال «الجهادية» وسندان الارتياب والتمييز المهدد للحريات. من يومها وأنشطة العمل الجماعي العربي المنظم، التي كان للرجل دور وازن في رعايتها وإنمائها، تتكسر وتنحسر.
كان يتفنن في اجتراح تعابير تعارف عليها عارفوه بأنها تندرج في باب «الكلفسة»، أي قول الشيء برفق وأناة في الأدنى، أو الشيء ونقيضه في الأقصى: مرة سألته عن سوري يعرفه هل أنه معارض؟ أجاب: بل معترض، ضحكت حتى كدت أقع مغشياً عليّ.
كنت أحتار في كيف كان مؤسساً من مؤسسي حزب كمال جنبلاط، وفي مرة قال: لم يطل مقامي به إلا سبع سنوات، فقلت: عجاف؟! فقال: دعك من التحرش، لكنني سأروي لك واقعة دالة... ذهبنا ذات يوم من آب ١٩٥٦ الى مهرجان تأييدي لتأميم عبد الناصر للقناة دعا إليه أكرم الحوراني في مقر البرلمان في دمشق – وكان رئيسه. وقف جنبلاط ليتلو بياناً ثلاثياً صادراً عنه وعن ريمون ادة وبيار الجميل يحذر من مخاطر القرار ويطالب التجمّع بلفت نظر عبدالناصر اليها. هاج الجمع وماج اعتراضاً على مقولة القائل، وخرج جنبلاط محفوفاً باستنكار الحاضرين فلحقت به لاهثاً لأقول أمام الكل وبعالي الصوت: أنا مستقيل من الحزب، وللتو. قلت: أعرب ما قلت، قال: هي لبوس «الحالة اللبنانية»، قلت: لكنها تحللت بعد ربع عام واحتلت مكانها حلة قشيبة من اليعربية؟ فقال: وهذه تصاريف لبنانية أيضاً.
آخر لقيانا كان في آب الماضي عندما أتيت واشنطن لأسمع أنه في المستشفى منذ أيام بعد أن كسر فخذه ثم دلف إلى شبه سبات نتج عن توقف قلبه لدقائق عن الضخ. لم يكن قد مضى إلا أسبوعان على مكالمة طويلة له معي في بيروت كان فيها متقافزاً من الانشراح بحراك الشارع اللبناني. ذهبت وصديقين طبيبين إلى مشفاه لأجده عند الشفق، ما بين السبات والوعي... ندهت عليه بإسمه لأجد عينه تطرف وبعض لسانه يقول: عروبة... بيروت، وليشدّ بوهن على يدي. أدركت أنه على طريق التعافي بالعروبة، فهي إكسير حياته.
عاش ومات على فكرتها كالقابض على الجمر، لم تثنه عنها أنواء ولا هزت إيمانه بها زلازل. كان واحداً من أبر حكمائها.