كريم عبد الرحمن *
قد يكون تسييل الجدل النظري في الأصولية والحداثة في إيران مهماً كمادة نقاش. وثمة من يذهب إلى أن استعادة الكلام على الحداثة وما بعدها، استناداً إلى التجربة الإيرانية بعد نحو ثلث قرن على ثورة الإمام الخميني، لا يفارق دائرة الإشكال، بل إنه يضع مثل هذه الاستعادة كقضية محورية بامتياز.
غير أنّ هذه القضية لا تُحمل لدواعٍ شتى على محمل المعاينة الواقعية للتجربة الدينية السياسية، وذلك يعود إلى استشراء داء التسييس، وغلبة أحكام القيمة على بيئات ثقافية، وفكرية واسعة في منطقتنا. فسيكون حاصل الأمر هو ما نجده اليوم، حيث بات المعيار المذهبي والعرقي في رأس المعايير الناظمة لحركة التحولات الجيو ــــــ استراتيجية في شبه القارة العربية الإسلامية. لكن لو عدنا إلى أصل الإشكال لطرحنا السؤال التالي: هل ثمة مجال لقول الممكن حول إيران وإسلام ما بعد الحداثة.. وتالياً كيف رأى الغرب ولا يزال يرى إلى مثل هذا السؤال؟
في خريف عام 1978 سافر الفيلسوف الفرنسي الراحل ميشيل فوكو إلى إيران لمصلحة صحيفة «كورير ديلا سيرا» وكتب يومها عن التظاهرات الشعبية المتزايدة ضد نظام محمد رضا بهلوي. لم يكن فوكو المعروف بتحليلاته عن الجنون والمستشفيات والسجون يعرف إلا القليل ــــــ باعترافاته هو ــــــ عن التاريخ الفارسي أو الإسلامي. كما أنّه لم يعمل صحافياً أو محقِّقاً للأحداث من قبل. إلا أنّه أجاب بعد أن سئل عن سبب سفره بالعبارة التالية: «لا بدَّ أن نتواجد حينما تولد الأفكار».
في تلك اللحظة أخذت الأنتلجنسيا الغربية بأسئلة لم تعهدها في أي بلد إسلامي آخر منذ انهيار الخلافة العثمانية. كان هاجس الكثيرين من المثقفين والأكاديميين والفلاسفة مركوزاً في ما يُحتمل أن تفضي إليه تلك «الجيولوجيا الدينية» من تحولات تتجاوز الهضبة الإيرانية. كان ثمة شبه إجماع على أن تؤدي ردة فعل الغرب السالبة على الحادث الإيراني الثوري، إلى المزيد من تحويل الجمهور إلى الإسلام السياسي .وهذا ما دفع فوكو إلى أن يرى أن «الإسلام ليس مجرد دين، بل هو أسلوب حياة متكامل، وولاء لتاريخ وحضارة، وأن إسلاماً له مثل هذه الدينامية يحتمل أن يتحول إلى برميل هائل من البارود بالنسبة إلى مئات الملايين من البشر».
هذه القراءة لأحد أبرز فلاسفة الغرب في القرن العشرين، لم تكن مجرد توصيف لمشهد عارض ظهرت إرهاصاته على بساط جغرافيا إسلامية مشحونة بالأزمات. إنّما هي تفصح عن واحد من أبرز مستويات اشتغال عقل الغرب على رؤية حراك الإسلام وإسهامه في تشكيل نظام القيم العالمي.
في إيران اليوم يشهد ميدان تحريك سؤال التحديث السياسي على سبيل المثال، نقاشاً واسعاً في ما يسميه المفكرون هناك «الديموقراطية الدينية»، ومنهم من يذهب إلى التساؤل عن الكيفية التي تمكن المشروع الإيراني الإسلامي من خلالها، التأثير في منطق النظام الدولي الأحادي، ووضع التحدّيات أمام الفلسفة السياسية الغربية ونموذجها المهيمن.
في هذا المجال يقول كثيرون من المثقفين الإيرانيين إن فكرة «الديموقراطية الدينية»، أو ما يصطلح عليها بـ«الديموقراطية الإسلامية» ومسألة التوفيق بين «الجمهورية» و«الإسلامية» شكلتا معاً مشروعاً جديداً يسهم في خلط الأوراق ضمن دائرة التصنيف التقليدي المتّبع في عالم الفلسفة السياسية.
الجانب المهم في قراءة الفلسفة السياسية المعاصرة للمشروع الإسلامي الذي طرحه الإمام الخميني، هو ما شكل عموماً أبرز اهتمامات الأطروحة الما بعد حداثية، أي التي تقضي بالعمل على تفكيك مفهوم المشروعية من خلال تقسيم حق الحاكمية إلى قسمين: مساوٍ وغير مساوٍ بين الله والشعب. بعبارة أخرى، تقضي رؤية ما بعد الحداثة بالحؤول دون وضع مفهومي «الجمهورية» و«الإسلامية» «في موازاة بعضهما، حتى لا يتم اللجوء إلى عقد نوع من المصالحة الاضطرارية والبراغماتية أو الواقعية بينهما. في مقابل ذلك ينبغي اعتبار أن حق الشعب هو فرع منبثق من حق الله، وأن الجمهورية قالب وإطار لإعمال حاكمية الله وتنجيزها.
والحاصل عموماً أنّ الديموقراطية الإسلامية، بحسب هذا التنظير، تنطوي على المزايا الإيجابية التي تحملها الديموقراطية مفهوماً، من دون أن تُبتلى بالأمراض التي ابتُلِيَت بها الديموقراطية الغربية، وهذه المزايا هي: حقّ الانتخاب للشعب، الرقابة على الحكّام، الأخذ في الاعتبار رضا العامة، القبول بمبدأ الانتقال السلمي غير العنيف للسلطة، مضافاً إلى هذا كله اعتبار الأخلاقية الدينية هي الوعاء الذي يؤطِّر ويسدّد المزايا كلها.
صحيح أنّ هناك من لا ينفك ينظر إلى التجربة الإيرانية بوصف كونها تنتمي إلى الوجه السلبي للظاهرة الأصولية الإسلامية المعاصرة. لكن كثيرين من المفكرين الغربيين المعاصرين لا يرى إلى أصولية العالم الإسلامي، التي تندرج الثورة ودولة الثورة في إيران في طليعتها، على أنّها مجرد تقليد موروث من الماضي، وإنّما إلى كونها تنتمي بحيثيةٍ ما إلى «ما بعد الحداثة» كما يقول المفكر الإنكليزي كورتز، ذلك أنّ هذه الأصولية هي التعبير الجليِّ عن رد الفعل الإيديولوجي الحتمي على إخفاق عمليات التحديث الغربية.
ثمة في الغرب اليوم من يخشى مفاعيل ما يذهب إليه التوظيف الإيديولوجي النيوليبرالي الذي يحكم على الإسلام السياسي بأصنافه المختلفة «الأصولي، والسلفي، والاعتدالي»، بأنّه إسلام معادٍ للحداثة، والعصر، والمستقبل.
لكن حين يجري النقاش داخل مراكز الأبحاث والمستقبليات في أميركا وأوروبا، غالباً ما يُقال إنّه لا يجوز فهم الأشكال الراهنة للأصولية الإسلامية على أنّها نوع من العودة إلى صيغ وقيم اجتماعية غابرة، حتى من منظور الممارسين، أي من الأصوليين أنفسهم. ولا يتأخر نقادٌ كثر من العاملين في حقل إنتاج الأفكار في الغرب عن نقد وسائل الإعلام التي تخطئ حين تجعل من عبارة «الأصولية» مادة تختزل مختلف التشكيلات الاجتماعية المنضوية تحت ذلك الاسم، بينما هي في الواقع تشير حصراً إلى الأصولية الإسلامية، التي يجري اختزال وجودها، إلى تعصّب ديني إرهابي متشدد لا يعرف معنى التسامح. لكن المسألة لا تتوقف على إجراءات وتوظيفات الإعلام التي هي أداة تعبير لسلطة القرار الأيديولوجي والاستراتيجي في الغرب. فهذه السلطة تواصل إنتاج مناخات ثقافية ترى إلى كل ظاهرة إسلامية ممانعة أيّاً كانت خلفياتها، وممارستها، ومواقعها، بوصفها تجسيداً لمعاداة الحداثة.
على الضفة المقابلة من هذا التوصيف السلبي ثمة في الغرب من يعاين الصورة بطريقة مغايرة. وتبلغ هذه المعاينة مستوى من الفهم يصبح من غير الممكن النظر إلى مشروع الأصوليات، بوصفه مشروعاً ينتمي إلى ما قبل الحداثة، وإنّما باعتباره مشروعاً عائداً إلى ما بعد الحداثة. ذاك أنّه لا بد من رؤية «ما بعد حداثية الأصولية» بالدرجة الأولى، من خلال رفضها للحداثة. وفي كون هذا الرفض مخصوص بالهيمنة اليورو ــــــ أميركية. ولقد اعتدنا أن نجد في سياق التقاليد الإسلامية كيف أنّ الحداثة بالنسبة إلى الحركات الإسلامية التقليدية، تعني ذوباناً مبالغاً به في البوتقة اليورو ــــــ أميركية أو خضوعاً كاملاً لها. لكن المثل الإيراني سيتخذ لنفسه مسارات تتجاوز هذا السياق، وهو ما نلاحظه من خلال الحراك الإجمالي للمشهد الثقافي والفكري والتنموي على امتداد تطورات «الزواج المتصل» بين الثورة والمجتمع والدولة.
ثمة من يقرر في الغرب في سياق هذه القراءة التأويلية، أنّه إذا كانت الحداثة تعني السعي لاكتساب تعليم الغرب وتكنولوجيته في خلال الاندفاعة الأولى من مرحلة ما بعد «الاستعمار التقليدي»، فإن من شأن ما بعد الحداثة أن يعني عودة إلى القيم الإسلامية التقليدية ورفضاً للحداثة. من المؤكد بالطبع وجود شرائح قوية من المسلمين كانت «معادية للغرب» بمعنى من المعاني منذ بدايات الاستعمار، غير أن ما هو جديد في صحوة التأصيل التي أطلقتها الحالة الإيرانية، لم يكن في الحقيقة إلا ظهور قوى جديدة انبثقت هذه المرة من شروط اشتغال النظام الإمبراطوري الجديد. وتبعاً لهذا المنظور يمكن اعتبار الثورة الإيرانية، بمقدار ما ــــــ كما يقول ناقدو ليبرالية ما بعد الحداثة ــــــ انها أولى ثورات ما بعد الحداثة، التي تحصل في خلال الشطر الأخير من القرن العشرين.
* كاتب وأستاذ جامعي