بعد أربع سنوات من الخلاف على سد النهضة بين إثيوبيا، مصر والسودان، وقّع قادة الدول الثلاث في الخرطوم، اتفاق إعلان مبادئ حوله، يُعَدّ وفق الدول الثلاث أساساً للوصول إلى اتفاقات تفصيلية حول استخدام مياه النيل في تحقيق مصالح مشتركة لها.
بداية الخلاف

منذ أربع سنوات وسدّ النهضة الذي تنتهي إثيوبيا من بنائه على النيل الأزرق، عام 2017، ليصبح أكبر سد كهرومائي في القارة الأفريقية، يؤجج الخلافات بين مصر وإثيوبيا. نتيجة تبدلات الحكم التي طرأت على الساحة السياسية المصرية، والتي أدت إلى حالة من الارتباك في كيفية إدارة السياسة الخارجية والملفات العالقة مع دول الجوار، كانت إثيوبيا تستغل ذلك وتذهب بعيداً في بناء هذا السد الذي ينعكس تأثيره سلباً على تغذية الجمهورية العربية المصرية بالمياه.

ونتيجة تخوف القاهرة من تأثير هذا السد على تدفق مياه النيل إليها، حيث يعتبر المورد الوحيد للمياه في مصر تقريباً، جعل فكرة الحرب لدى قياداتها واردةً باستمرار، دون أي اختراق دبلوماسي في جدار الأزمة لحل الخلاف بينها وبين أديس ابابا بطريقة سلمية، ولا سيما أمام تمسك الأخيرة ببناء هذا السد لما له من فوائد بالنسبة إليها.
أهمية هذا الخلاف تنبع من أهمية نهر النيل عينه، حيث يعتبر النيل أحد الأمثلة للخلافات القائمة حول الأنهار، التي تعالج وفقاً لقانون الأنهار الدولية ومن خلال المفاوضات الثنائية أو المتعددة الأطراف والتي قد تؤدي دوراً بارزاً في تقريب وجهات النظر.

تقاسم النيل

ظهرت أولى الاتفاقيات لتقسيم مياه النيل عام 1902 في أديس أبابا، وعقدت بين بريطانيا بصفتها ممثلة لمصر والسودان وإثيوبيا، ونصّت على عدم إقامة أي مشروعات، سواءٌ على النيل الأزرق، أو بحيرة تانا. ثم وقعت اتفاقية بين بريطانيا وفرنسا، عام 1906، وظهرت عام 1929 اتفاقية أخرى، وهذه الاتفاقية تتضمن إقرار دول الحوض بحصة مصر المكتسبة من مياه‏ النيل، وبأن لمصر الحق في الاعتراض في حالة إنشاء هذه الدول مشروعات جديدة على النهر وروافده.

أي حل بين الأطراف
يجب أن يؤسَّس وفق قانون الأنهار الدولية


في عام 2010 وُقِّعَت معاهدة النيل بين الدول المشاطئة العليا في عام 2010، إلا أنها كانت اتفاقاً للتعاون الإطاري، لم يوُقع من خلال مصر أو السودان، نظراً إلى أنه ينتهك معاهدة 1959 التي تعطي حقوقاً حصرية للسودان ومصر في مياه النيل. لذلك، احتجت مصر وفقاً للقانون الدولي على بناء سد النهضة.

قواعد الانتفاع من نهر النيل

لا شك في أن هناك عدم وضوح في مواقف بلدان المنبع والمصب، فليس هناك اتفاقية صريحة تضم الدول الـ11 المشاطئة للنيل، لذلك تقع خلافات حول حقوق الانتفاع والتزامات كل دولة.
ومع أن هناك فوائد كبيرة للسد الإثيوبي، لأنه سيُنتج الطاقة الكهرومائية. فالكهرباء التي ستُنتَج بواسطة محطة الطاقة الكهرومائية ستجري تغذية إثيوبيا بها، وقد تأخذ الدول المجاورة بما في ذلك السودان وربما مصر حصة منها مقابل مبالغ مالية معقولة، لكن من الضروري أن لا يؤدي هذا السد إلى اقتطاع المياه في أعالي النيل، ما قد يعود بضرر كبير على مصر.
لذلك إن أي حل بين الأطراف يجب أن يُؤسَّس وفق قانون الأنهار الدولية الذي تأسس على عدة مبادئ وردت في اتفاقية الأمم المتحدة بشأن تنظيم استخدام المجاري الدولية لغير أغراض الملاحة لعام 1997، ومنها مبادئ أساسية يمكن تطبيقها على مشكلة سد النهضة، أهمها مبدأ حسن الجوار ومبدأ الانتفاع والمشاركة المنصف والعادل الوارد في المادتين الخامسة والسادسة من الاتفاقية، وطبقاً لهذا المبدأ يكون لكل دولة مطلة على نهر النيل حق استخدامه استخداماً منصفاً ومعقولاً مع عدم الإضرار بباقي الدول المطلة على النهر ويطلق عليه أيضاً الانتفاع البريء الذي لا يلحق الضرر بالدول المشاطئة والمستفيدة من النهر.
وقد ألزم قانون الأنهار الدولية الدولة المطلة على نهر دولي التي تريد اتخاذ أي إجراء يتعلق بالنهر بالإخطار المسبق لبقية الدول المطلة على النهر، تبين فيه بوضوح تام ماهية الإجراء الذي تنوي اتخاذه، ويجب أن يتضمن هذا الإخطار المسبق كافة البيانات والمعلومات عما تنوي عمله، مع ضرورة التشاور والتفاوض مع بقية الدول المطلة، بيان مدى تأثير هذا الإجراء على مياه النهر الدولي، وفى حالة التأكد من عدم إضرار هذا الإجراء بإحدى الدول المطلة يجب على الدول المطلة الموافقة على اتخاذ هذا الإجراء، ولكن إذا تبين وقوع ضرر من هذا الإجراء يجب على الدولة الامتناع عن اتخاذ أي خطوات للقيام بهذا الإجراء. ويتطلب الانتفاع بمجرى مائي دولي بطريقة منصفة ومعقولة، بالمعني المقصود في المادة 5، أخذ جميع العوامل والظروف ذات الصلة في الاعتبار، كالعوامل الجغرافية والمناخية والحاجات الاجتماعية والاقتصادية لدول المجرى المائي المعنية والسكان الذين يعتمدون على المجرى المائي في كل دولة من دوله.

أفضل طريقة للحل

وفق ما تقدم، يمكن القول إن إنشاء سدّ النهضة في إثيوبيا يخالف مبدأ التزام عدم التسبب في ضرر جسيم للدول الأخرى المطلة على النهر الوارد في المادة السابعة من الاتفاقية الدولية كما يخالف مبدأ التزام التعاون بين دول المجرى المائي الدولي المادة الثامنة من الاتفاقية ويتعارض مع مقتضيات مبدأ الانتفاع المنصف، لكن السد أصبح قائماً والأهم أن لا يصل هذا الخلاف إلى حد النزاع المسلح بين الطرفين، بل لا بد من السعي إلى حل هذه المشكلة بطريقة سلمية باستخدام الوسائل السلمية لتسوية النزاعات الدولية. وهذا ما ذهبت إليه الدول الثلاث، متسلحةً بحقوقها وبالاستناد إلى قانون الأنهار، كأفضل خيار للحل بعيداً عن الأعمال العسكرية، وذلك عبر اتفاق يفترض أن يبدد قلق كل من مصر والسودان، من تأثر حصة البلدين من مياه نهر النيل نتيجة بناء السد. ويتضمن الاتفاق بين الدول الثلاث 10 مبادئ أساسية، تحفظ في مجملها الحقوق والمصالح المائية، وتتسق والقواعد العامة في مبادئ القانون الدولي الحاكمة للتعامل مع الأنهار الدولية. وتشمل المبادئ التعاون على أساس التفاهم المشترك والمنفعة المشتركة، وحسن النيات وتحقيق المكاسب للجميع، وتفهم الاحتياجات المائية لدول المنبع والمصب بمختلف مناحيها، ومنها أيضاً عدم التسبب في ضرر لأي من الدول الثلاث، بالإضافة إلى اعتماد مبدأ الاستخدام المنصف والمناسب للموارد المائية، واتفقوا أيضاً على مبدأ السيادة ووحدة إقليم الدولة، مع التسوية السلمية للنزاعات التي قد تحدث بسبب السد، من خلال المشاورات أو التفاوض «وفقاً لمبدأ حسن النيات». وعلى الرغم من أن توقيع هذا الاتفاق لا يعني الوصول إلى حل نهائي، قبل بناء الثقة بين البلدان الثلاث واستكمال المفاوضات والمحادثات على المستوى السياسي والقانوني، إلا أنه دون أدنى شك يشكل أحد أهم الاتفاقات التي تؤسس للوصول إلى حل منصف ونهائي للدول المشاطئة يؤدي إلى أخذ كل بلد حقه والانتفاع من السد دون تأثر حصته في النيل. لذلك، إن التزام الأطراف اتفاق الإطار الذي أتى مطابقاً لما تنص عليه اتفاقية الأمم المتحدة للانتفاع من الأنهار سيؤسس لمرحلة مهمة جداً في تاريخ العلاقات بين الدول المجاورة لنهر النيل، وبالتالي يمكن أن يصبح اتفاقاً يحتذى به لحل أزمات حول بعض الأنهار الدولية، ولا سيما أن أهميته تكمن في الذهاب نحو الحلول السلمية بدلاً من عسكرة الأزمة.
* باحث لبناني