القراءة الغالبة حتى الآن لظاهرة «داعش» وفكرها وممارستها، هي قراءة سياسية بالدرجة الأولى، فأغلب ما يكتب ويقال، يصب في إطار تحليل ومحاولة إجابة على أسئلة من قبيل: من أنشأ هذه المجموعة ومن يمولها وينظمها ويوفر لها السلاح؟ من المستفيد منها محلياً وإقليمياً ودولياً؟ في حين ما زلنا نتجنب الخوض في الأسئلة التي ستقودنا في النهاية إلى المهمة التاريخية التي نهرب منها حتى الآن، والمتمثلة في ضرورة مواجهة الذات وموروثها الديني التاريخي بكل أسئلته الشائكة.
إذ نؤكد ضرورة القراءة السياسية وأهميتها وشرعيتها، إلا أننا نضعها ضمن ما يمكن تسميته بالأسباب المباشرة والآنية، وربما السياسة هنا هي أداة أكثر مما هي سبب. بينما الأسئلة الأكثر أهمية وحساسية باعتقادنا تلك التي تتتبع إن كان هنالك سياق تاريخي لهذا الفكر؟ وهل تتوفر بيئة اجتماعية ثقافية حاضنة له تشجع «المستفيد السياسي» منه على أن يلقيه في وجوهنا وهو مطمأن بأنه ستنسجم بدرجة ما مع السياق العام للمجتمع الذي هو فيه؟
لا ندعي بأن الإجابة على هذه الأسئلة التي تحفر في الجذور سهلة وممكن الإحاطة بها في حدود مقال، ولكن ما ندعيه أنه علينا مواجهتها يوماً ما شئنا أم أبينا. «داعش» لا يقول إنه يقتل من أجل القتل، وإنما كل ما يقوم به من إرهاب وسبي ودمار، يدعي أنه يملك شرعية لفعله، ومصدر الشرعية الذي يلجأ إليه هو النص القرآني والسنة النبوية وكتابات الأئمة المعروفين على مر التاريخ الإسلامي. فهو ساق لنا الكثير من هذه النصوص والأحداث التاريخية لشرعنة فعلها حين أحرق بشراً، وحين دمر متاحف واثاراً، وحين قام بسبي نساء. أي إن مرجعيته تتمثل في مجمل المروروث الديني. وفي المقابل، فإن ردة الفعل الرافضة لادعاءات «داعش» هذه لم تخرج من إطار الموروث ذاته ونصوصه وأحداثه التاريخية. فهذه العناصر من نص ديني وحدث تاريخي هي ساحة السجال الأساسية التي يخوضها المجتمع مع ذاته، وكأنه ببساطة يعيش معرفياً ضمن دائرة مغلقة، حيث لا تفكير ولا تفسير ولا تعليل يقوم به إلا استناداً إلى الماضي وأدواته، ومن النص وبسلطته. ما يؤشر إلى حالة قطيعة شبه تامة مع الحاضر، فيقتصر انتماء المجتمع إلى هذا العصر ضمن الحدود المادية فقط، أي انتماء زمني، في حين حضوره المعرفي ينتمي إلى عصر سابق.
الإشكالية هنا لا تكمن في استناد الأمة إلى تاريخها وارثها الفكري والحضاري وحتى الديني، والاستعانة به لمعالجة قضاياها الراهنة والمستقبلية، وإنما في تجاوزها حدود العلاقة المعقولة والموضوعية به، فترهن نفسها بالكامل لهذا الموروث. وهو الارتهان المسؤول عن ولادة «داعش» ومجمل الحالة العربية بمكوناتها الاجتماعية والثقافية، وباعتقادنا هو الذي يفسر حالة الفشل المزمن في تحقيق النهضة العربية.
السؤال المركزي هنا هو كيف وصلنا كأمة إلى حالة الارتهان هذه؟
من المعروف أننا أبناء حضارة قد انهارت تماماً ونشأ على أنقاضها حضارة أخرى تنتمي لأمة مختلفة لها عصرها وزمانها وإنتاجها الفلسفي والمعرفي الذي يحمل هويتها، وليس في ذلك عيب أو منتصر ومهزوم، فالحضارة الإنسانية ما هي إلا حاصل جمع حضارات الأمم المتعاقبة والمبنية معرفياً على بعضها بعضاً. فالكمبيوتر الذي اخترعه الغرب اليوم غير منفصل عن اختراع الصفر في حضارة سابقة. ولكن العيب والإشكالية هي في التقوقع على الذات الذي وقعنا به، بحيث استصعبنا الاعتراف بأن راية الحضارة قد انتقلت لغيرنا. وقد ذهب هذا السلوك فينا لدرجة مزج التاريخ بالدين فأصبح كامل موروثنا مقدساً، أي لم يقتصر التقديس على دلالات ما هو ديني فقط وإنما كل ما هو تاريخي أيضاً. وهذا جعل ماضينا بالنسبة لنا وكأنه «نهاية المعرفة»، وهي النهاية التي ولد منها شعار «الإسلام هو الحل» الذي تبنته ونادت به الحركات الإسلامية عموماً والاقصائية على وجه الخصوص.
الجدير ذكره أن هذا الموروث كان في قرونه الأخيرة شائكاً، وقد عاش صراعاً فلسفياً وفكرياً عسيراً بين مكوناته أو بين ما يمكن تسميته بالنزعة المحافظة والنزعة التجديدية، وهو صراع طبيعي قد تشهده أية حضارة بعد تعاقب أجيال عليها عدة. ونحن ورثنا هذه الحالة بكل ما فيها من تشابك وأسئلة، وورثنا تحديداً السؤال الكبير الذي كان مطروحاً آنذاك وهو علاقة «النص بالعقل». وعلى الرغم من كل ما ساد ذلك الزمن من مراحل انحطاط وقمع واقتحام السلطة لسؤال الفكر، إلا انه وفر مساحة للجدل بين فلسفة ابن رشد وفكر الغزالي على سبيل المثال، وسمح بظهور مجموعة كـ «المعتزلة»، وبالتالي وصلتنا نقاشات من قبيل: إن كان النص «فعلاً صادراً عن قائله» أم هو «صفة ذاتية للقائل». بينما الكارثة اليوم تتمثل في أن تقديسنا للموروث قد جعله المعرفة بحد ذاتها وليس أداة للاسترشاد، وبالتالي أصبح التفاعل مع آخر ما توصل إليه الفكر البشري وآخر ما أنتجه الإنسان من معرفة ممنوع، بينما هو، أي الموروث، لديه كامل الشرعية لتفسير ما ينتج العصر بل ومحاكمته، ولهذا حتى حين نرفض «داعش» فإننا نرفضه بأدوات هذا الموروث، فأي معرفة تقع خارج فضائه حرام.
علاقتنا بالنص اليوم لا جدال فيها، تقوم على التبعية. النص حالياً هو مرجعية العقل والعقل ليس أداة لقراءة النص. فكما يقول الغزالي وهو الذي يميل لأولوية النص على العقل: «أن الصلة بين ما نعتقد أنه علة وما نعتقد أنه معلول، لا تتضمن ضرورة بينهما» فالله قادر على أن يخلق الشبع دون أكل. هذا هو الارتهان على حقيقته. وقد تمأسس هذا الحسم ليصبح نظاماً ثقافياً يحدد أدوات التفكير لدينا، وبات هو الفلسفة الحاكمة لمنهجية التعليم، فنجده يتجلى بشكل خاص في المنطق الذي يحكم طريقة تدريس «الدين أو التربية الإسلامية» والتاريخ في المدارس العربية. فالتاريخ يقدم لهم على أنه قطعة واحدة جامدة سارت برتابة ومثالية، ولا نتجرأ على أن نطرحه لهم بإيقاعاته وتناقضاته وتعقيدات حركته. كما ندرسه من دون ارتباط بالحاضر وكأنه عالم بحد ذاته لا يؤثر فينا. نقطة التأثير الوحيدة التي يتوصل لها الطالب عند تخرجه، هي أن تاريخنا ناجح وحاضرنا فاشل، لذلك علينا العودة للماضي حتى نسترد نجاحنا. هذه العودة هي التي تشكل عصب الفكر السلفي اليوم الذي تولد منه كل يوم حركة سياسية واجتماعية تشدنا للخلف وتحجبنا عن المستقبل.
واستكمالاً لذلك، يأتي تدريس «الدين»، بنفس السياق والمنهجية، فهو يقدم للطلبة والدارسين على أنه العلم بحد ذاته، أو في أحسن الظروف لا تترك هذه المنهجية مسافة كافية بينه وبين العلوم، فهو القادر على تفسير العلم وليس كما يفترض، العلم طريق للتعمق في الدين وقضاياه، على الرغم من الخطاب التقليدي السائد الذي يؤكد ليل نهار عكس ذلك.
إذا نحن أمام علاقة إيمانية بالتاريخ والموروث بمجمل عناصره، ولسنا بعلاقة معرفية. لذلك فنحن على سبيل المثال نتعامل مع أشخاص ساهموا في بناء حضارتنا السابقة فكرياً وعلمياً وسياسياً بمنطق الفخر والاعتزاز بهم، دون القدرة على هضم إنتاجهم في سياقه الزمني، بل لا نمتلك أصلاً الأدوات المعرفية اللازمة لفعل ذلك. وربما هذه العلاقة الإيمانية تفسر إلى حد بعيد كيف نستفز وتثار غيرتنا من رسم كاريكاتوري، بينما تدمير ذاكرتنا وشواهد الحضارات التي مرت على أرضنا لا يثير فينا الغيرة ذاتها. الإيمان المعزول عن العقل يحشد الأفراد حول الفكرة لمناصرتها، ولكن لا يغريهم بمناقشتها وتعليلها وتطويرها. وهذا يعني أن الفكرة قد تكون فعلاً ماتت ولم تعد تنتمي لعصرها، ولكن تحييد العقل يمنعنا من إدراك ذلك، وقوة الإيمان المجرد وحدها تبقي مفعولها النفسي فينا؟
هذا الواقع يوصلنا للقول بأن واحداً من أهم أسباب فشل محاولات النهضة العربية المتكررة، إن لم يكن أهمها على الإطلاق، أنه لم تحدث حتى الآن مواجهة حقيقية بيننا وبين هذا الموروث الديني الاجتماعي المعرفي. وأن كل صراع شهدناه حتى الآن هو صراع سياسي إيديولوجي وليس فكرياً معرفياً. وهو الصراع الذي لا بد منه لتحديد هويتنا وموقفنا من العصر الذي نحن فيه. نصر دائماً على أن بداية تفكك الدولة العثمانية باعتبارها خلافة إسلامية أولاً ولكونها إمبراطورية عابرة للهويات والقوميات ثانياً، كانت المرحلة الذهبية والحتمية لهذه المواجهة مع الذات. فما بعد الإمبراطورية كان قد انتشر نموذج الدولة القومية، وهو النموذج الذي يفرض سؤال الهوية كون هذه الدولة لها حدود سياسية مرتبطة بحدود ثقافية قومية محددة. ولكن لسوء حظ هذه الأمة، أن تلك الفرصة قد ضاعت مع وصول الاستعمار الأوروبي إلى شواطئنا، حيث تبدلت أولويات ذلك الصراع وفرضت علينا معركة التحرر التي تطلبت ضرورة مجاملة الذات بدلاً من مواجهتها، وتوحيد مكوناتها لمقاومة الغريب المحتل. والنظام السياسي العربي ما بعد الاستقلال تجنب مواجهة الذات لأنه رغب في الحكم أكثر مما طمح إلى بناء أمة. ولكن حتى ما بعد الاستقلال، لا نستطيع القول بأن معركة التحرر قد انتهت، فعلى الرغم من أن فترة عبد الناصر قد شكلت محاولة جدية لبناء هوية عربية بتعبيرات عصرية، إلا أن صراعه مع الغرب قد غلب أولوية الصراع الإيديولوجي على الصراع الفكري أو صراع الحاضر مع بنى القديم. ووجود إسرائيل اليوم له ذات الفعل. وهنا، علينا أن لا نفصل بين حالة تجمد الموروث فينا وما ينتج عنه من تطرف وإقصاء ومسألة الهوية التي كلما خمدت عادت لتظهر مرة أخرى، فالهويات الصغيرة الدينية والمذهبية والقبلية راسخة فينا، وحين تتراجع أو تتقدم فهذا عائد إلى طبيعة المرحلة السياسية السائدة، بينما المعالجة الثقافية لم تتم بعد. ولذلك فإن الفشل فيها ملازم للفشل في التعامل مع ذلك الموروث. والنجاح في معالجة الموروث والتاريخ سينتج تلقائياً هوية بتعبيرات عصرية، فهما أي الموروث وسؤال الهوية خطان متلازمان.
القراءة السياسية لظاهرة «داعش» التي نحن أمامها اليوم، يجب أن لا تبعدنا إذاً عن فهم السياق التاريخي لها. التطرف لم يولد بولادة هذه الجماعة، فهو موجود بدرجات متفاوتة في قتل كاتب وإحراق رواية، وفي خطبة إمام مسجد يشيطن المرأة غير المحجبة ويعدها بعذاب أليم، وموجود في نظام التعليم التلقيني والتربية الأبوية... الخ. من المؤسف أن نقول بأن هنالك شيئاً إيجابياً في ظاهرة «داعش»، وهو أن جنونها هذا لا بد أن يكوي ذاكرتنا، وهو الكي الذي قد يزيد عدد المقتنعين بضرورة المواجهة مع الذات. فمن أصعب القرارات التي قد تتخذها أمة ما هو أن تواجه نفسها، وان تهدم مسلماتها وأصنامها المعرفية التي نامت عليها وقتاً طويلاً. لا بد من هذا الجنون الذي نشهده اليوم ليدفعنا فعلاً إلى لحظة المواجهة وإن مرغمين. وما هذا الجنون الذي نحن أمامه حالياً إلا بداية الهاوية.
* صحافي فلسطيني ــ باريس