عمر البرغوثي *أضمّ صوتي إلى جميع الأصوات الفلسطينية الحرّة التي أدانت بشدة البيان الحاقد الموجه ضدّ مهرجان رام الله للرقص المعاصر. فاتهام مؤسّسة بعراقة وتاريخ سرية رام الله الأولى، المنظمة للمهرجان للسنة الثالثة على التوالي، بالتطبيع والخيانة وغيرهما من الأوصاف النشاز، إنما تعيب وتُدين من أطلق تلك الاتهامات، لا من أُطلقت عليه. وتشبيه التعبير الفنّي المعاصر بالرقص على جراحنا إنما هو بعينه تجريح جائر ونافر لثقافتنا وتاريخنا وحاضرنا.
فالذين يريدون إلغاء التعدّدية الفكرية والتنوع الثقافي والانفتاح الحضاري على العالم بحجة أن كل مختلف هو غريب و«أجنبي» ولا يتماشى مع عاداتنا وتقاليدنا، يدّعون دون أساس حقهم في تعريف تلك العادات والتقاليد. وهم لا يستوعبون أن الحضارة الإنسانية بُنِيت ونمت فقط من خلال التثاقف والتلاقح والتواصل غير المنقطع بين حضارات وثقافات متعددة على مرّ التاريخ. ولا مناص هنا من تذكّر مقولة للكاتب المكسيكي العالمي، كارلوس فوينتس، الذي كتب: «لا ثقافة تحتفظ بهويتها في عزلة؛ تُكتسَب الهوية من خلال الاتصال، التضاد، والاختراق».
فما يُسمّى اليوم «الثقافة الغربية» هو نتاج انصهار مؤثرات حضارية عديدة، من أهمها تلك القادمة من المستعمرات وثقافاتها العريقة، كما أشار إدوارد سعيد وغيره من خيرة مثقفي العالم.
ولولا الترجمات العربية لأهم تراث الفلسفة الإغريقية، على سبيل المثال، لضاعت الأخيرة بسبب قيام الكنيسة في العصور الوسطى بحرق الترجمات اللاتينية والأعمال الأصلية، بعد تكفيرها.
وقد يردّ بعض التكفيريين الجدد في أوساطنا بتركيز هجومهم على الرقص تحديداً، بعكس أشكال التعبير الثقافي الأخرى، كـ«خلاعة» و«مجون»، أو على الأقل كفنّ يتناقض في روحه وشكله مع آلام ومعاناة شعب يرزح تحت الاحتلال ويعاني، بالذات في غزة، من حصار وحشي، يشبّهه ممثل الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، البروفيسور ريتشارد فولك (وهو يهودي بالمناسبة)، بأعمال الإبادة الجماعية.
لكن لماذا كل هذا الغضب تجاه الرقص؟ ألم تقم فرق الرقص الفلسطينية الرائدة بدور ضروري وطليعي في بلورة وتعزيز جذور الهوية الفلسطينية عندما كان كل تعبير عن تلك الهوية مجرَّماً من قبل سلطات الاحتلال؟ ربما، قد يرد البعض، ولكن ذلك كان رقصاً فلكلورياً، يحيي تراث شعبنا دون أن يتحدى تقاليده وأخلاقه، أما الرقص المعاصر فهو «بدعة» أجنبية، دخيلة على ثقافتنا النظيفة والنقية. لا يعكس هذا القول نَفَساً قمعياً إقصائياً فحسب، بل وضحالة مؤسفة في فهم «ثقافتنا» وفي إدراك معنى الرقص المعاصر، بل وكل أشكال الفن المعاصر. من قال إنّ التراث هو الشكل الأوحد لهويتنا؟ فجوانب عديدة من ثقافتنا العربية، من الملبس والمأكل وأساليب الترفيه والكتب والموسيقى والمسرح والغناء وحتى العادات، تأثرت وتتأثر بتغيرات الحياة ومتطلباتها. فالزيّ التقليدي أخلى مكانه للزي العصري في معظم الأحيان، لا تنكراً لجمال ومدلول الأول، بل طلباً لراحة واتساق الأخير مع حياتنا العصرية.
فالثقافة التي تُختزَل إلى مكونها التراثي فقط لا تستحق اسم ثقافة أصلاً، بل هي تليق بمتحف! إن ارتباطنا بجذورنا هو ارتباط حيّ يعطي هويتنا مرساتها الثقافية، بكل تأكيد، ويتيح لنا فرص التواصل مع العالم، لا كنكرات لا أصل لنا ننبهر بكل أجنبي، بل كمجتمع لديه تاريخ وموروث عربي ـــــ إسلامي يعتز به، وثقة بالنفس تؤهله لاستدخال عناصر ولرفض عناصر أخرى من ثقافة الآخر.
إنّ الرقص المعاصر، من هذا المنطلق، هو تعبير حركي غني لما نشعر به نحن الآن، ولآلامنا ومظالمنا، ولأحلامنا وطموحاتنا، في هذا العصر تحديداً، لذا لُقّب بالمعاصر. وبعكس القوالب الجامدة والمحدودة للغاية للرقص التراثي العربي ـــــ الفلسطيني، وهي كانت وستبقى المنبع الأول الذي نهلت وتنهل منه فرق الرقص الفلسطينية الرئيسية، فالرقص الفلسطيني المعاصر لا حدود له في القدرة على التعبير عن فلسطين المعاصرة، المحتلة، المشردة، المقسمة، المحاصرة، المذلة، والأهم من كل ذلك، المقاوِمة والرافضة لأقل من الحرية والعودة وتقرير المصير.
لكن حتى لو سلمنا بأن الفن ضرورة للتنمية المجتمعية ولتطوير الهوية الفلسطينية المعاصرة، قد يقول قائل، فما علاقة الفن عموماً والرقص خصوصاً بالمقاومة؟ أليس الفن رفاهية في زمن القتل والتجويع والحرمان من أبسط متطلبات الحياة، إن لم يكن إهانة لشهدائنا وجرحانا وأسرانا، بل لكل مقاومة تتصدى للاحتلال ببطولة وروح فدائية نبيلة، أو تحاول؟
أعتقد أن هذه التساؤلات تُحقّر من شأن كل مقاومة مدنية بأشكالها، وتختصر المقاومة على شكلها المسلح، الذي بالفعل تقوم به، ولا يمكن إلا أن تقوم به، نخبة محدودة من الأبطال، لا المجتمع بأسره. أين، إذاً، أشكال المقاومة الشعبية المتعددة، القادرة على إشراك الشعب بأسره، بنسائه، بشبابه، بطلبته، بعماله، بفلاحيه، بمثقفيه، بفنانيه؟
كيف يُنظر للفن الراقي والملتزم بقضايا شعبه والمعبّر عنها كإهانة للشهداء؟ أليس هذا الاتهام بحدّ ذاته إهانة صارخة لعقولنا ولذاكرتنا الجماعية؟ ألا نتذكر فنانينا الذين قتلوا أو جرحوا أو اعتقلوا لسنوات طوال؟ إن فيلماً فلسطينياً يشارك في مهرجان «كان» أو «برلين» أو «البندقية»، على سبيل المثال، يرفع وعي الرأي العام العالمي وتأييده لقضيتنا أكثر من ألف بيان، مع تقديري العالي لأهمية البيانات السياسية في التأثير. وعرض فنّي فلسطيني واحد في أرقى مسارح أميركا أو بريطانيا أو في مبنى الأمم المتحدة نفسه، مثلاً، يسهم في التصدي للدعاية الصهيونية الحاقدة ويضاعف مناصري شعبنا أكثر من ألف تظاهرة في شوراع رام الله وغزة، مع كل احترامي للتظاهر كشكل نضالي رئيسي في مقاومتنا.
لا أحد يحتكر، وحده، تعريف المقاومة! لا أحد يملك الحق، وحده، بأن يقرر أشكال المقاومة «المسموح بها» وتلك «الممنوعة». بما أن الاضطهاد واقع علينا جميعاً، فالمقاومة واجب علينا جميعاً، كل بطريقته وقدراته ومهاراته. لا أحد يملي على شخص يعاني من الظلم كيف يقاوم!
إنّ الفن الفلسطيني، كما أشكال الثقافة الأخرى، هو ضرورة لمجتمعنا ولمقاومتنا ولحياتنا كبشر نستحق أن نفرح وأن نبكي وأن نفكر وأن نُظهر كل ذلك في الإعلام، وفي الجريدة والكتاب، وعلى خشبة المسرح، لنتواصل مع أنفسنا ومع العالم أجمع. لا أحد يستطيع أن يحرمنا هذا الحق الأساسي، غير القابل للتصرف، في التعبير الحر عن أنفسنا... لا الاحتلال بقوته الغاشمة، ولا قوى الظلام الفاقدة للبوصلة، ولا الفاسدون بألوانهم.
هنا لا بدّ من أن أتطرق للوجه الآخر للقمع، الذي للأسف لم أرَه في سطور معظم من انبرى للدفاع عن مهرجان رام الله للرقص المعاصر: القمع الذي تمارسه السلطة في رام الله. فلماذا نهاجم فقط القمع الفكري ـــــ الثقافي «هناك» ونتناسى أو نتجاهل القمع السياسي والاقتصادي «هنا»؟ فالتظاهرات السلمية تقمع بوحشية تكاد تضاهي وحشية المحتل. والآراء السياسية الناقدة بشدة للسلطة، أو الكاشفة لتفاصيل تورّط البعض في جرائم فساد أو غيره تمنع من النشر في الجرائد الهامة.
والتحليلات التي تهاجم السلطة لتواطئها في حصار غزة، سواء بالصمت أو بتبرير بعض رموزها للحصار، لا ترى النور. وتتحول أجهزة الإعلام الرسمية الفلسطينية يوماً بعد يوم إلى منافس قوي للإعلام «الحر» في سوريا والأردن والعراق وغيرها من واحات الديموقراطية العربية العتيدة. ويزيد الفقر والغلاء والبطالة والحاجة في مجتمعنا، كما يتضاعف عدد المعتقلين والشهداء بتواز مع عدد المستعمرات، من دون حراك فاعل من حكومة منتشية بوعود الدعم الخارجي الذي يُدفع ثمناً لاستعدادها المعلن أو المستور للتنازل المشين عن حقوقنا الوطنية. أين الأصوات التي ترفض هذا القمع؟
إنّ رفضنا للاضطهاد والقمع، كل القمع، فكرياً كان أو سياسياً أو اقتصادياً، يجب أن يكون منسجماً مع ذاته ليتحلى بصدقية.
من غزة إلى رام الله، ومن عين الحلوة والوحدات إلى حيفا وعكا، سيستمر شعبنا بالحياة، بالمقاومة، بالتظاهر، بالتصدي، بالصمود، بالإصرار على الحقوق، بالتعبير الفني، بالكتابة، وبكل الأشكال الأخرى، لنُنهي كل ظلم وكل اضطهاد، ولنحيا كما نستحق، بحرية وكرامة وإباء.

* فنّان فلسطيني وأحد مؤسّسي الحملة الفلسطينيّة
للمقاطعة الأكاديميّة والثقافيّة لإسرائيل