إسلاميّة المقاومة والرّهانُ على «الجيل الخاسر»

  • 0
  • ض
  • ض

لا ينصرفُ الثوريّون كثيراً إلى التنظير الفلسفيّ لثوراتهم؛ الفعلُ المقاوم كذلك لا يحتاجُ في اجتراحهِ إلى نظرياتٍ علمية، الشعارات لوحدها تكاد تكفي لتُلهب أمماً بكاملها؛ غيرَ أنها لم تكفِ يوماً لاستدامة جذوة المقاومات الصاعدة، ولا انتقال قِيَمها بكفاءة من جيل إلى آخر. «الاستدامةُ» هي التحدّي الأكبر في تاريخ التنظيمات، وتقنينُ التجارب هو أداتها الرئيسة. وكجُزئية مُلفتة؛ تُلحظ في كلّ تنظيمٍ مُقاومٍ ظاهرةُ تململِ «المحاربين القدماء» من انحلال المعايير لدى الكوادر الجديدة، وتصبحُ مثاراً شبه دائمٍ للتذمّر والتبرُّم والخوف على مستقبل المشروع الذي أفنوا ذواتهم وطاقاتهم فيه. هذه الظاهرة لا تعدو كونها تلمُّساً _غير مفسَّرٍ غالباً_ لقانونٍ يحكم سيرورة أجيالها المتعاقبة؛ مفاده أنّ: كلّ جيلٍ جديدٍ يدخل التنظيمَ، يدخِل معه بعضاً من قيمه؛ ولا طاقة لتنظيمٍ على حفظ القيم الأصيلة ما لم يمتلك براعة التخطيط والتنفيذ في نقل وَعيهِ الثوريّ الأول. في تجربتنا المعاصرة؛ ثمّة حاجةٌ بنيويّةٌ مُلِحّة لقوننة الفعل المقاوم، وتسييله في قوالب نظريّة وخطط تطبيقيّة صالحة لاختلاف الزمان والمكان؛ بيدَ أنّنا في الوقت الذي ينبغي أن ننكبّ فيه على ما لا يُحصرُ من الأبحاث والدراسات الموضوعيّة، نَغرقُ بصورةٍ مُستهجَنةٍ في لذّة الإنجاز الموقّت والخطط القصيرة الرؤية. هو واقع مُلغِزٌ متناقضٌ أسوأ ما فيه استحقاقنا لما هو فيه، وجدارتنا بمرحلة انتكاسة أمّة ما زالت أوهنَ من الاحتفاء بتجاربها الناجحة، والبناء عليها. إسلاميّةُ المقاومة نقطةٌ أثيرةٌ تستحقُّ إسهاباً في الجهد البحثيّ المتعمّق، وقراءةً دقيقةً للعناصر والمتغيرات، وصولاً إلى توصياتٍ ممنهجةٍ تضيف إلى الواقع بعضاً من نقاط الثبات والكفاءة. ولا بُدّ من اعتذارٍ مُسبقٍ عن التكثيف وتخصّصية اللغة في غالب النصّ؛ كونها تسهم في إيجاز الكثير من الأفكار التي تحتاجُ شرحاً مُستفيضاً. أسلمة المقاومة قبل الخوضِ في تشعّبات الموضوع وجُزئيّاته؛ من المهمّ _توطئة_ الإشارةُ إلى أنّ أسلمة المقاومة بحدّ ذاتها إنجازٌ اصطلاحيٌّ يُحتسب لها. من يسبرُ أعماق المعرفة الدينيّة يُدرك صعوبة اجتراح مصطلحاتٍ وعنونة مسائل جديدة في هذه البيئة الصارمة، وهو أمرٌ _على بساطته النظريّة_ كانت تتجنّبهُ مُعظم قيادات المعرفة الدينيّة على امتداد تاريخها، وتكتفي بالأصيل من المصطلحات، وتُرجِعُ الواقعَ إليه، لا أكثر. المقاومةُ في جوهرها فعلٌ إنسانيٌّ صرف، منبعه الإحساسُ بمسؤوليّةِ رفع الظلم عن كاهل الشعوب، وتحقيق القدر اللائق من الكرامة الشخصيّة والمجتمعيّة. إسلاميّاً، كان ثمّة حركات، ثورات، إمارات... أمّا «مقاومات إسلاميّة»؛ فهو ليس بالمصطلح القديم، ولعلّ مُجرّد ابتكاره يُمثّل قيمةً مُضافةً لمرونة جانب من الحالة الإسلاميّة في مواكبة العصر؛ تنظيماً ولغةً. وفي الإطار ذاته؛ فإنّ إسلاميّة المقاومة لا يعني احتكار شرعيّتها، ولا إلغاء الدور المقاوم للتنظيمات غير المسلمة (كما قد يجنح إليه البعض). غيرَ أنّ خلطاً واضحاً حصل في بداية تأسيس هذا الحراك المعقّد، ومثّل استفزازاً لجهات ناشطةٍ أخرى لم تحمل المشروع الإسلامي ولم تنتمِ إليه، ما لبث أن اصطلح معهُ عقب النضج التراكميّ الذي أكسبها إياه امتداد وقسوة التجربة. رهان «الترهّل» لم يبتكر ابن خلدون _في مقدّمته الشهيرة_ بدعاً حينَ صنّف أجيال الفعل السياسيّ الحاكم للمجتمعات، ووضّح كيف تتراجع كفاءة الحكم وتتراخى قبضة السلطة من جيلٍ لآخر؛ بل لعلّ جهده لم يتعدّ استقراءَ طبيعة مجتمعيّة أتاحت له ظروفُ مرحلته معايشتَها بشكلٍ واضح. غير أنّ التحدي الحقيقي يكمنُ في رسم المنطق التاريخيّ لأجيال التنظيمات المجتمعيّة؛ وخصوصاً تلك التي لا تتصدّى لمشروع قيادة الدولة، بل تكتفي بأن تنوب عنها في بعض مهامها؛ كحمل السلاح وحماية كينونتها وضمان أمنها. ثمّة عشرات المتغيّرات التي تحكم هذه التنظيمات، والكثير من الفوارق البنيويّة التي تكاد تمنعها من تكوين وحدة موضوعية للدراسة والتقصّي؛ ما يُرجّح دراسة كُلّ منها على حدة؛ كتجربة منفصلة. النموذج الإسلاميّ للتنظيمات المقاومة يَقرُنُ ما بين الفكرة الثوريّة والسلوك الأخلاقيّ القويم، واستدامة انتقالها بشكلٍ فاعلٍ بين أجيالها المتتالية؛ وأيُّ تهديدٍ لأحدهما يودي فعليّاً بقيمة الأخرى (مع لحظِ أنّ أخلاقيّة الثورة لطالما كانت الحلقة الأضعف). وبتقييمٍ منصف؛ لا تخفى براعة «العدوّ» في استهداف الحلقة الأخلاقيّة بدأبٍ حثيث، إلى درجة الإفصاح عن دراسات وجداول الزمنيّة متفائلة؛ تبشّر بالوصول إلى «جيل مترهّلٍ» من المقاومين، يسهل انكسارهُ. راهن الكثير من الأصوات المفكّرة في قيادة «الكيان» بحماسةٍ على انهيار الفعل المقاوم كفكرةٍ في منظومة الوعي للأجيال الجديدة. «دعوها تموت لوحدها»؛ الأسلحة تصدأ في مخازنها بعد بضع سنين، والجيل الناشئ _الذي لم يُعاين الحروب_ سيترهّل وعيه وانتماؤه؛ وتموت الفكرة المقاومة قبل سلاحها. في زحمةِ التكهنات هذه؛ وُلِدَ مُتغيّرٌ لم يكن بحسبان أحد ٍتقريباً، خصوصاً من حيث أثره على معركة صناعة أجيال الكوادر وبنيتها الأخلاقيّة؛ وهو الحربُ الداخليّةُ التي عصفت بأكثر من دولةٍ إقليمية باسم الحريّات أو الخلافات الصاعدة. إنّ قسوة الحدث العسكريّ الذي ألمَّ بالمنطقة اليوم كان أشبه بـ«لمسة نبيٍّ» على مشروع صناعة الوعي السلوكيّ لدى الكوادر المقاوِمة حديثةِ العهد، وصنعَ فيها ما لم تكن لتصنعهُ جهودُ مؤسساتٍ كبيرة مسّتها الرتابةُ في غير جانبٍ من الخطط والأنشطة. الشبابُ المقاومُ الذي يملأ ساحات القتال في الجبهات الداخليّة اليوم؛ يعيشُ دروساً حقيقيّةً وصعبة، وتعايُشاً نوعيّاً مع فكرة الشهادة، وكلّ ما ينبغي له أن يتركه وراءهُ من سيرةٍ وقيم، أو يحملهُ معهُ من سجلٍّ سلوكيٍّ مميّز. الإحساسُ بالوقوف على بوّابة العالم الآخر يخلقُ في الآلاف من الكوادر المقاتلة الجديدة إحساساً مهيباً بأهميّة الاستقامة السلوكيّة وقداستها، ويصقلُ في الشخصيّة الثوريّة أعمقَ نقاط الالتزام والتقوى العمليّة. ثمّة حقيقةٌ نفسيّةٌ في هذا؛ مفادُها أنّ الظروف بالغة القسوة هي بالغةُ الفائدة أيضاً، وكفيلةٌ _في الأمد المنظور_ بتحصين بنية المقاومة وتمكينها من أسباب النماء والنجاح؛ إنّما في حال استطاعت استثمارها على الوجه الصحيح بعد انتهاء الأزمة، وهو ما لم تبرع به كثيراً في فرصٍ سنحت سابقاً. موضوعيّاً؛ نجا هذا الجيلُ اليافع من خطر الترهّل بيدٍ سماويّة، وسيكون مُرتكَزاً لمشروع المقاومة في سنوات طويلةٍ لاحقة؛ وهو ما يُفسح وقتاً ثميناً للقائمين على الشأن التوعوي ليعيدوا تنظيم جبهاتهم الفكريّة والسلوكيّة، بعد مرحلةٍ سكنها الخوف والترقّبُ أمام هذا التحدّي المضني. مسؤوليّة التثقيف المقاوم... ومسؤولوها إنّ خشونة معركة الوعي تؤكّد حقيقةً غير مُعتنى بها كثيراً؛ وهي ضرورة إيجاد مناهج _بالمعنى العلميّ الدقيق للكلمة_ لصناعة واستدامة التوعية الفكريّة والسلوكيّة لكوادر التنظيم، وهي ليست بالمهمّة السهلة أبداً؛ خصوصاً في مجتمعٍ مفتوحٍ على كلّ عبثٍ فكريٍّ وسلوكيّ، ومُستهدَفٍ بانتظام وشراسة في صميم رسالته ومشروعه. حالياً؛ يشي الواقعُ بأنّ أكثر الجهود لا ترتكز إلى مخططات علميّة بقدر استنادها المعتاد إلى قداسة الفكرة الدينيّة وإيجابيّة جمهورها، وتخطيطٍ بسيطٍ هو أقرب إلى الخبرات الفرديّة المحدودة؛ منهُ إلى براعة الدراسات العلميّة بالغة التقدّم والتعقيد التي تحكم عالم إدارة الوعي الجمعي اليوم. ولا يُمكنُ لذاك التبسيط _بحال_ أن يُحصِّن البنية التنظيمية على المستوى البعيد؛ بل غالباً ما يرجع بنتائج مُزيّفة عن استتباب الحال وطبيعيّة الموقف، ويمنعُ قراءة معطيات الترهّل الأولى بموضوعيّة. هذا الوهم خطرٌ جدّيٌّ تسقطُ فيه بعض الجهات أو الأشخاص الموكلين مهمّة «الرباط» على هذه الجبهة. إنّما _وفي الجانب المضيء من الصورة_ تفخرُ المقاومة اليوم بأنها تنتج نموذج «الشباب الرسالي» الملتزم؛ الذي يُؤثِرُ أهدافه الحركيّة على كلّ مغريات مرحلة الشباب، لا سيما في ظلّ الضغط الثقافي الهائل الذي تمارسه القوى المتربعة على عرش العولمة، والتي تلقي بشرائح عريضة من الشباب العالمي في أتون العبث والسطحيّة، وضياع الدور والأثر في صناعة المستقبل. ويتمتّعُ المُنتَج المقاوم _في غالبهِ_ بانضباطٍ فكريٍّ وسلوكيٍّ عالٍ، لا تُقاربهُ أغلبُ منظّمات المجتمع المدنيّ، أو الأحزاب السياسيّة، وحتى المسلّحة منها. ثمّة بالفعل نماذج شبابيّة غاية في الانتظام والكفاءة، تتميّز بالوقوف الحرفيّ عند مفردة «التكليف» الصادر عن القيادة؛ وهو مؤشرٌ تنظيميٌّ متقدّم جدّاً؛ بغضّ النظر عن مصداقيّة اتهامه بالشموليّة أو مصادرة التفكير الحرّ لكوادر التنظيم، كما لا يخلو المشهد ُمن نماذج قليلة لا تمتُّ لجوهر هذا الانضباط بصلةٍ تُذكر. إنّ التحدّي الحقيقيّ الذي يفرضهُ هذا النجاحُ البنيويّ المرحليّ؛ يكمنُ في قوننته واستدامته. ومن وجهة نظر قِيَميّةٍ صرفة؛ تقفُ الغيرة على المشروع المقاوِم خلفَ الموضوعيّة القصوى في تحليل واقعه واستشراف جانبٍ من مستقبله، والبحث في آليّات صعوده أو انتكاسته. لعلّ من حسنات الحروب أنّها تصقل الوعي والسلوك لدى كوادر التنظيمات المقاومة وجمهورها؛ وهي بطريقةٍ ما تمثّل لطفاً سماوياً يتدارك هذه التنظيمات التي تحمل مشروعاً إنسانيّاً وقيميّاً رائداً. غير أنّ ذاكَ لا يُخلي ساحةَ القائمين على الفعل المقاوم من بذل جهودٍ حقيقيّةٍ في تحصين هذه الجبهة، التي يؤدّي انكشافها إلى انكشاف المشروع المقاوم ككل، وخسارة معركته الأكبر. هذا جوهرُ التحدّي الصارم الذي تفرضهُ عدالة السماءُ حتى على جمهورها؛ منطقُ التخطيط وسُنّةُ الأسباب. * باحث وأستاذ حوزوي

0 تعليق

التعليقات