بحسب المؤرخ الروماني بلوتارك، فإن الخطأ الثاني الذي ارتكبه ماركوس كراسوس، قبيل المعركة مع البارثيين في حرّان، كان في رفضه الانصياع لنصيحة جنراله الذي أوصاه بتوزيع الفيالق الرومانية على خطٍّ طويلٍ، وهو تشكيل هجومي يسهّل الحركة والتقدّم والضغط على نقاط ضعف الخصم. بدلاً من ذلك، اختار كراسوس أن يرتّب جيشه على شكل مربّع، فارغٍ من الداخل، ويتكوّن كلّ ضلعٍ فيه من 12,000 جندي، وهي خطّة دفاعية، تسمح بصدّ هجمات العدو من كل الجهات، وتمنع الالتفاف على جناحيه، ولكنها تصعّب الحركة، وتهدد بجعل أي تشكيل يتقدّم ــــ لملاقاة أو مطاردة العدو ـــــ تحت خطر الانفصال عن الجسد الأساسي للجيش.
التأريخ الروماني كان قاسياً على كراسوس، وجعله، على مدى قرون، رمزاً للهزيمة ومادة للسخرية، ولكن خطة السيناتور الروماني لم تكن تخلو من المنطق. هو أراد أن يستغلّ تفوّقه العددي الكبير، وأن يُبطل ميزة الخيالة البارثية عبر اجبارها على الهجوم المباشر على جيشه الضخم والمدرّب، والذي يفوقها حجماً بأربعة أضعاف على الأقل. كان الجيش البارثي قد انقسم الى قوّتين: الاولى مكوّنة من وحدات المشاة والرماة الراجلين، أُرسلت، والملك على رأسها، الى أرمينيا. أما قوة الخيالة، وهي لا تزيد على العشرة آلاف، فقد اتجه أكثرها مع قائد الجيش، سورينا، الى الصحراء لملاقاة الرومان.
كانت نظرية كراسوس أن خطة مناورةٍ وحركة قد تخدم البارثيين، الذين لا يتفوقون على الرومان الا في مجال الخيّالة تحديداً؛ والرومان ــــ وهم، أصلاً، ليسوا أهل خيل ــــ لا يملكون أكثر من أربعة آلاف فارس، على رأسهم بوبليوس كراسوس، الابن البكر للسيناتور.
أمّا بالنسبة الى الرماة، فقد كان «مطر السّهام» في المدرسة العسكرية التي يألفها كراسوس «ازعاجاً» ثانوياً في المعركة، ومن الصعب أن يحسمها. تأثير السّهام حدوده ذخيرة الرامي، وهو لن يحمل الى الميدان أكثر من 60 ــــ 80 نبلةً، تُستنزف خلال دقائق معدودة. هو، اذاً، سلاحٌ لا يخدم على طول المعركة، بل على صورة «قصفٍ» يستمرّ لفترةٍ وجيزة، يكفي أن تحتمي منه وتقلل خسائرك، حتى ينتهي دور القوس وتبدأ «المعركة الحقيقية». كما أن الخيول التي تحمل الرماة لا يمكنها أن تكرّ وتفرّ في الصحراء لساعات طويلة، وهي ستكون سريعاً في حاجة الى الراحة، والى كميات كبيرة من الماء، وهو ما لا يمكن تأمينه في أرض المعركة.
متحصّنين بهذه الحسابات، لم يشعر كراسوس وضباطه بالقلق حين ظهرت أمامهم الخيول البارثية الثقيلة. هذه الخيول المدرّعة تعتليها تقليدياً النخبة البارثية وأبناء الارستقراطيين، وهي كانت تمثّل عُشر الخيالة البارثيين في المعركة تقريباً، فيما الأكثرية خيالة نبالٍ خفيفة. شكّل فرسان النخبة، الذين يمتازون بتصفيحٍ كامل لهم ولخيولهم، من قمة رؤوسهم الى سيقان جيادهم، رأس الحربة في جيوش الامبراطوريات الايرانية المتعاقبة، وصولاً الى معركة القادسية. وقد تقصّد القائد البارثي أن يغطّي الفرسان أنفسهم وخيولهم برقعٍ وأقمشة، ثمّ يزيلوها دفعة واحدة حين يستوون أمام صفوف الخصم، ليُصدم الرومان بمشهدٍ مهيب لآلاف الخيول المكسوة بدروعٍ صقيلة وهي تبرق تحت الشمس ــــ ثمّ انطلق الهجوم.
المشاة الرومان تمكنوا بالفعل من احتواء الخيالة الثقيلة، التي عجزت عن اختراق صفوفهم. المشكلة هي انه، حين تراجع هجوم الخيالة البارثية المصفّحة، بدأت السهام تنهال على الرومان. ما لم يتحسّب له كراسوس هو أنّ الجنرال البارثي كان قد حمّل قوافل، تضمّ أكثر من ألف جمل، بالسهام وبالماء، حتى تتمكن من امداد الرّماة بالذخيرة بلا انقطاع، واراحة أفواجٍ فيما أخرى تهاجم. فحاصرت هذه الخيول السريعة المربّع الروماني طيلة النهار وهي تمطره بالسّهام بلا توقّف، والرومان لا يملكون حيلةً في وجههم (في تجسيد للمقولة العسكرية الشهيرة: «الهواة يتحدّثون عن التكتيكات والمحترفون يتحدثون عن اللوجستيات»).
القوس الآسيوي ــــ «المركّب» ــــ الذي يحمله الخيّال البارثي كان أبعد مدىً من القوس البدائي الروماني. وقوّة الطلقة كانت كافية، بحسب المؤرخ ديو، لاختراق ترس جندي الفيلق ويده معاً، وتثبيت رجله في الأرض بنصل السهم. أكثر الاصابات كانت، على الأرجح، غير مميتة فوراً، وفي الأطراف التي لا تحميها الدروع، وهو ما قد يشكّل عبئاً أكبر على جيش محاصر تحت الشمس الحارقة. يكتب ديو، بتأثّر، أن موت هؤلاء الرجال «لم يكن سريعاً ولا سهلاً». وان حاول المشاة أو الخيالة الرومان مطاردة الرماة البارثيين، فهم كانوا يختبرون ما صار يسمّى بـــ «الطلقة البارثية»، حين يستدير الفارس وهو منسحب على جواده، ويطلق السهام، بعكس اتجاه فرسه، على القوة التي تلاحقه. هذا يجبر العدو على التوقف وأخذ وضعية دفاعية، ما يعرّضه لغارات الخيالة الثقيلة التي تلتف عليه.
القمّة الدرامية، والنهاية الفعلية للمعركة، كانت حين اندفع ابن كراسوس، بوبليوس، على رأس فرسانه، في محاولة يائسة لدفع سيل السهام المستمرّ عن الجيش المنهك؛ فظهر بعد ساعاتٍ فارسٌ بارثي نبيل وهو يرفع رأس كراسوس الابن على رمحه، أمام ناظري الوالد وجنود الجيش المتهالكين.
قُتل كراسوس في اليوم التالي، وفقد الرومان أكثر من ثلاثين ألف جندي بين قتيل وأسير. خسرت روما سبعة نسورٍ هي الرموز «المقدّسة» للفيالق، ولم تستعدها الا بعد ثلاثين سنة ضمن اتفاق صلحٍ مع بارثيا. كان القوس الآسيوي مسؤولاً عن أكبر هزيمة لروما منذ معركة «كان» في وجه هنيبعل (حين سُحقت ثمانية فيالق)، ولم تشهد مثيلاً لها الى قرنين من الزمن، حين تمكن ورثة البارثيين ــــ الساسانيّون ــــ وفي موقعٍ غير بعيدٍ عن حرّان وبتكتيكات مشابهة، من محاصرة جيش امبراطورٍ روماني، فاليريان، وأسره واقتياده الى فارس (يُقال إنّ الملك الساساني شاهبور كان يستخدم الامبراطور كـ «مسندٍ بشريّ» لقدميه في البلاط الملكي).