تفيدُ قواعد اللغة العربيّة أنّ «الاستثناء بعد النفي يدلّ على الحصر والتأكيد في آن»؛ في ضوء هذه القاعدة البسيطة نستطيع قراءة قول النبيّ الأميّ ذاتَ دعوةٍ: «لا فضل لعربيٍّ على عجميّ إلّا بالتقوى».بعيداً عن حرفيّة وروح هذا النصّ الحازم؛ تتراكم عقيدةٌ _أو عقدةٌ_ اجتماعيّة تُقرّ طبقيّة لا تمتّ للدين بصلة؛ إنّما باسم الدين نفسه، ما يقتضي الخوض في أصل شرعيتها؛ ومؤدياتها الخطرة.

وقبل الدخول في غمار الأخذ والردّ؛ نحنُ هنا لا نجترحُ فقهاً ولا نمسُّ مُقدّساً؛ وإنما نتناول ظاهرةً تُنسبُ للدّين بمنطق الفكر والاستدلال؛ وهذا حقٌّ معرفيٌّ ثابت.
يتمسّك البعضُ بحبال الهواء حين يحاول إرجاع فكرة التفاوت الطبقيّ إلى نصوصٍ قرآنيّة؛ كقول الخالق: «إنّما يُريد الله ليُذهب عنكم الرّجس أهل البيت...»؛ وينطلق في مغامرةٍ لغويّة_منطقيّة ليُعمم حكم «أهل البيت» (المصطلح المخصوص) على كلّ من انتسب لهم بالولادة.
وهكذا... يُستبدَلُ التنوّع الإنساني «شعوباً وقبائل لتعارفوا»، بطبقيّة دينيّة مُنزّلة؛ lk دون أن يكون للدين ذاته يدٌ في ذلك!

عقدة الشرف والنقص

لطالما عاشت البشريّة عقدة الطبقات. في روما القديمة أمسكت طبقة رجال الدين والسياسيين بأنفاس الطبقات الأخرى في المجتمع؛ حيث كانت طبقات العامّة والمعتقين والعبيد منقادةً لهم في كلّ تفاصيل واقعها.
ويُتوارث الشرفُ _أو الدناءةُ_ جيلاً بعد جيل؛ إذ أنّ المصير الأبديّ لمن تشاء له الصدف أن يولد في طبقة معيّنة، أن يموت فيها.
أمّا المعتقد الهنديّ فقد قسّم المجتمع إلى طبقاتٍ وفق أسطورة خلقهم من جسد الإله؛ فرفع فئة «البراهما» التي خلقها الإله من فمه، وتدرّج نزولاً إلى فئة الخدم والعبيد «الشودرية» التي خلقها من رجله!
ليس بعيداً كثيراً عن هذا؛ قَدّست بيئاتٌ دينيّة (لا الأديان ذاتها) سُلالة ريادييها وقادتها إلى السماء؛ للسبب ذاته؛ فأصبح معيار الشرف أو عدمه مشوّهاً، وكان من جملة أسباب التردّي الحضاري لتلك المجتمعات.

قيمة النسب في المعيار الإسلامي

مما حفظه التاريخ، أنّ النبيّ الكريم همسَ لابنته الزهراء ذاتَ توعيةٍ أن «يا فاطمة، يا بنت محمّد، اعملي لنفسك؛ فإنّي لا أغني عنك من الله شيئاً».
كان يرسمُ معالم فكرةٍ حضاريّةٍ تُفيدُ أنّ العمل هو القيمة الوحيدة في مضمار التكامل، حتى لو كان النسبُ لصيقاً؛ كمحمّدٍ وابنته.

لا يستسيغُ الإنسان بفطرته العقليّة تراتبيّة بشريّة يفرضها العرق أو اللون أو الأجداد


أمّا الوعي الدينيّ لدى أتباع الرُّسل فلم ينسلخ يوماً عن إنسانيّة المجتمع؛ ليختلط الدينيّ بالبشريّ، ويُسرفَ المحبّون المغالون بتوزيع صكوك القدسية، وتحجيم قيمِ الدين؛ ما يُفضي إلى نقض أفكارٍ حضاريّةٍ رئيسةٍ (كالمساواة الإنسانيّة) كان مُقدّراً لها أن تجعلهُ صالحاً للزمان والمكان كلّهما.
ليس من المنطق العُقلائيّ اعتمادُ قاعدةٍ كهذه تجعل من «أبي لهب» _عدوّ النبوّة الأوّل_ شريفاً لمجرّد أنّهُ ينتمي بالنسب إلى بني هاشم (وهو تقنيّاً بالفعل كذلك؛ وفق هذا المعيار للرفعة أو الضِّعة).
في حين أنّ النبيّ الكريم وضع ضوابط حازمةً لا لبس فيها؛ حيث أعلن: «أنا جدُّ كُلّ تقيٍّ ولو كان عبداً حبشيّاً، ولستُ جدَّ كُلّ شقيٍّ ولو كان أبيض قرشيّاً».

المؤديات الاجتماعيّة والفقهيّة

عادةً ما تخلط البيئات الإنسانيّة _على اختلافها_ ما بين قيم الدين وقيمها الاجتماعيّة الخاصّة؛ وهي ظاهرةٌ بشريّةٌ صرفة؛ ترسّخ الفوارق بين شرائح متجانسة تنتمي إلى البيئة ذاتها، وتضعف وعيها وواقعها تبعاً لذلك.
في مجتمعٍ وادعٍ كتايلند تدخل العروس المنتمية نسباً إلى السلالة الشريفة كملكةٍ في بيت زوجها (في حال لم يكن «شريفاً»)؛ تقضي الطقوس أن تغسل أمّ الزوج (الحماة) رجلي كنّتها الجديدة! وتخدمها بالفعل كسيّدةٍ للمنزل طوال فترة إقامتها فيه؛ وذلك عربون عرفانٍ لقبولها تشريفهم بالنّسب والدّم.
أمّا في بعض البيئات المنفعلة كباكستان والهند؛ يصلُ الأمرُ إلى درجة قتلِ الإنسان «العاميّ» الذي يتجرّأ على توهين العِرض المقدّس، والزواج من فتاةٍ تنتسبُ إلى السلالة «الشريفة»!
في حين يقتصر الأمر ضمن البيئات «المعتدلة» على التمييز بالنداء أو المخاطبة، وبعض التوقير في آليات التعامل المتكلَّفة.
غير أنّ المؤدّيات لا تقف هنا؛ إذ يصل الأمر في الإطار الفقهي التشريعي إلى نقاط تثير الجدل حيناً والاستهجان أحياناً. وقد تصل تداعيات هذه الطبقيّة إلى أصل الخلقة البشريّة! لتصبح أحكامُ الأجسادِ مختلفةً من منظور الفقه، إذ يُعتبر سنّ اليأس لدى المرأة «الشريفة» أو التي تنتمي إلى قريش 60 سنة؛ في حين يحكم الفقه ذاته أنّ سنّ اليأس للمرأة «العاميّة» 50 سنة
فقط.
ورغم أنّ هناك خلافاً فقهيّاً جديّاً حول هذه المسائل، غير أنّ أكثر المجتمع يتعايش معها ويعتبرها وحياً طبقيّاً مُنزلاً.
ومن تلك الموروثات الخطرة _التي بدأت تصبح قاعدةً قطعيّةً_ أنّ الله خصّ «الأشراف» بمالٍ مُقرّرٍ لهم في ربح كلّ إنسان على هذا الكوكب (حتى وإن لم يكونوا فقراء)؛ وهو خُمس الأرباح التي يكسبها من جهده وعمله، في حين يَغيبُ عن وعي المجتمع أنّ هذه المسألة لا تعدو كونها رأياً اجتهاديّاً فقهيّاً خالفه العديد من الفقهاء؛ وأعلنوا أنّ هذا السهم الماليّ _المؤكّد دينيّاً_ هو وقفٌ اقتصاديٌّ لعامّة النّاس، «للإمام» أن يصرفه في شؤون المجتمع الملتزم وحاجاته؛ لا أن يوزعهُ حصّةً مَلكيّةً على من ينتمي إليه بالنسب (كبعض ممالك وإمارات اليوم).
وتتمّة ذلك اللبس أنّ الله شرّف فقراء «السادة» عن قبول الصدقات من بقية الناس وقبولها حصراً من السادة أمثالهم؛ باعتبار أنّ صدقات الآخرين هي «أوساخ ما في أيدي الناس»؛ لكنّهُ لم ينزه بقية البشر عن هذه الأوساخ.
ليس ثمّة عقلٌ أو شرعٌ عادلٌ يُقِرُّ هذا، لا سيما أنّ الحديث الآنف لا يتمتع بسند أو قيمةٍ علميّةٍ ثابتة، غير أنّهُ يتأصّل في وعي المجتمع بسهولةٍ تامّة.
قرأتُ ذاتُ مُطالعةٍ كُتيّباً يعيش كاتبهُ همّ المجتمع في كيفيّة مناداة عالم الدين؛ هل نقولُ له «يا سيد» أم «يا مولانا» أم «سماحة السيّد»، وبعد صولةٍ فقهيّةٍ استحبابيّة كانت النتيجة أنّ الجمعَ أولى؛ فتتوجب مناداته بـ«يا سماحة مولانا السيّد»!
والحالُ هذه؛ يبدو أنّ علينا أن نتواضع في أحلامنا لبناء فكرٍ مجتمعيٍّ مُتقدّم، أو أن نكون أكثر جديّةً في معالجة ظواهر كهذه.
لا يستسيغُ الإنسانُ الناضجُ بفطرته العقليّة تراتبيّةً بشريّةً يفرضها العرق أو اللون أو الأجداد، وإن فعل فهو لا يمتلك النضج الذي قد يدّعيه.
البشريّةُ بوعيها الحضاريّ اليوم تجاوزت الحديث في الطبقيّة جملةً وتفصيلاً، وجوهرُ الدين ورموزُه كانوا قد سبقوا ذلك بأشواط؛ حيث صرّحوا بأنّ قيمة المرء يختصرها عِلمُه وعَمَله، لا مولده وعائلته.
غير أنّ وضوح هذه الفكرة لا يكاد يُجدي لدى من يحكمُ على الحياة من زاوية موروثٍ يتراءى لهُ دينيّاً.
ثمّة بالفعل ضروراتٌ دينيّة أكثر إلحاحاً لدراستها والعناية بها في المجتمع المسلم؛ ومن غير المُبشّر أن نلحظ هذا الإفراط في التعلّق بالقشور على حساب الأولويّات المعرفيّة.
ونحن إذ نُعالج مسألةً طارئةً من الناحية التاريخيّة، مخالفةً لأمهات القيم الدينية وروح النصوص، نتلمّس سلبيّة نتائجها في مجتمعاتٍ تُثقلُ كاهلَ الدّين بقيودٍ لا تمتّ له بصلة.
لا ريبَ أنّ الإنسان الرسول مُحترمٌ ومحفوفٌ بالتقدير؛ وهو نفسه الذي حمل التشريع العادل الذي يُحاكم البشر وفق أعمالهم لا أنسابهم؛ أمّا مسألة توريث القداسة فليست من تعاليم الأنبياء ولا الأديان في شيء.
الشرفُ لا يُورّث، وإنما يُكتسبُ بنضج الفكرة وصواب العمل... هكذا تقولُ السماء.
* باحث وأستاذ حوزوي