أشار التقرير السنوي الذي أصدره أخيراً الائتلاف الفلسطيني من أجل المساءلة والنزاهة (أمان) الى اعتقاد 85% من الفلسطينيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة بوجود فساد في مؤسسات السلطة الفلسطينية. لا يقتصر الفساد في مؤسسات السلطة الفلسطينية على مسألةَ تجاوزات إدارية ومالية بحتة يرتكبها أفرادٌ غيرُ مسؤولين بدافع المصالح الشخصية بل هو فساد مزمن متأصل في هيكل السلطة الأساسي في النظام السياسي الفلسطيني المتجذر في منظمة التحرير الفلسطينية مِن قَبل عملية أوسلو.
ورغم كل ما يقال عن الجهودُ المبذولة لمكافحة الفساد في السنوات الأخيرة، والتي تتسم بطابعها السطحي «الفني» الغالب، وركزت في مسائل من قبيل صياغة مدونات قواعد السلوك، وتحسين إجراءات التوظيف، ووضع تدابير وقائية للتعامل مع مخالفات محددة، إلا أن مثل هذه التدابير يترتب عليها نتائج عكسية لأنها تساهم بإعادة انتاج الفساد بأشكال جديدة أكثر حرفية٬ وأيضاً تؤدي الى مواراة المسببات السياسية الجذرية للفساد.
مما لا شك فيه ان الفساد في مؤسسات السلطة الفلسطينية ونخبها السياسية هو سياق لنظامٌ متجدد. ولعلّ العامل الأساسي في إعادة إنتاج فساد نظام الحكم الفلسطيني واستدامته هو نظام التنفيع القائم على الشبكات الزبائنية التي تحكم طبيعة العلاقات في مؤسسات وادارات السلطة الفلسطينية، حيث يتجذر التنفيع في القيم الاجتماعية المتمثلة في القرابة والروابط الأسرية والتي أثرت إلى حد كبير على أنماط السياسة الحزبية القائمة. هذه الروابط الاجتماعية والسياسية غالباً ما تمنح النخبةَ الحاكمةَ أداةً استراتيجيةً للسيطرة على القواعد الشعبية وتوسيع شبكة مؤيديها من خلال إعادة توزيع الموارد العامة وذلك بهدف شراء الولاءات السياسية. وهذا بدوره ساعد النخبة الحاكمة في المحافظة على الوضع الراهن والهيمنة على الأصول السياسية والاقتصادية.
لطالما كان التنفيع السمة المميزة للعلاقات الداخلية بين اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية وبين المؤسسات الوطنية والمكونات السياسية. فقد استخدمت الدائرة المقربة في قيادة منظمة التحرير الفلسطينية شبكات أرباب المنفع-المتنفعين بانتظام لأغراض متعددة كبسط النفوذ على المكونات السياسية، إقصاء القوى السياسية الأخرى، وتنفيذ أجندتها السياسية من دون معارضة فاعلة. وبعد توقيع اتفاقات أوسلو، ورثت السلطة الفلسطينية سياسة «التنفيع» وصارت الشبكات الزبائنية العمودَ الفقري لقاعدتها المؤسسية. وبدلاً من المضي في بناء المؤسسات على أساس الجدارة، أصبحت علاقة التنفيع سمةً مميزة للهيكل المؤسسي للسلطة الفلسطينية وأداةً قويةً للإقصاء والاستيعاب حيث ارتبط التنفيع بأسلوب الحكم المشخصن وغير الخاضع للمساءلة الذي انتهجه رئيس منظمة التحرير الفلسطينية الراحل ياسر عرفات والقيادة السياسية الفلسطينية. فالسلطةُ الفلسطينية تنتهج اسلوب كسب ولاءَ الجماهير بتوفير فرص الحصول على الموارد الاقتصادية إلى حدٍ كبير، وليس من خلال إقناعهم ببرامجها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
فالقطاع العام الضخم في السلطة الفلسطينية ظل أداةً حيوية لخلق التبعية واكتساب الولاءات. وقد ساهم ذلك في مأسسة الفساد في القطاع العام التابع للسلطة الفلسطينية والذي يوظف حالياً ما يزيد على165,000 موظف عمومي يعتمدون كلياً على الرواتب التي تكفلها المساعدات الدولية للسلطة الفلسطينية. فيستأثر قطاع الأمن بالنصيب الأكبر من الموظفين بنسبة 44% من مجموع العاملين في السلطة الفلسطينية، ويستحوذ على 30% إلى 35% من الميزانية السنوية للسلطة الفلسطينية، وهو بالتالي يفوق المخصص لقطاعات حيوية أخرى مثل التعليم (16%) والصحة (9%) والزراعة (1%). كما ساهم تعطل المجلس التشريعي الفلسطيني والغياب التام للرقابة التشريعية على الميزانية الحكومية في تحرير الرئاسة والسلطة التنفيذية من الضوابط والموازين المؤسسية والمساءلة العامة الامر الذي عزز سيطرة السلطة التنفيذية على الإنفاق العام.
كما سعت السلطة الفلسطينية لاستيعاب العائلات الكبيرة لكسب ولائها، فأسست وزارة الحكم المحلي وضمَّنتها قسماً خاصاً معنياً بشؤون العشائر تحت منصب «المختار». وبما ان قسماً كبيراً من المجتمع الفلسطيني قائمٌ على العلاقات الاجتماعية العشائرية والقبلية والعائلية، قامت السلطة الفلسطينية بتعيين ممثلين لعائلات كبيرة في مناصب في عقد التسعينيات واصبحت تلك الوزارات لاحقاً تزخر بالموظفين من أقرباء الوزير وأصدقائه. وبعد الإصلاحات التي شهدتها السنوات الأخيرة على صعيد بناء الدولة، قلَّ التوظيف على أساس الاعتبارات العائلية غير أن بعض الوزراء استعاضوا عن ذلك وأحاطوا أنفسهم برفاق مقربين من خارج عائلاتهم.
نظام التنفيع استُخدم أيضاً لاحتواء المعارضة السياسية وتحييدها، فأُدمِجَ العديد من القادة السياسيين – مستقلين ويساريين وإسلاميين – في مشروع السلطة الفلسطينية الذي ادعوا رفضه في بادئ الأمر، حيث مُنحوا امتيازات وفرصةً لتولي مناصب مرموقة في القطاع العام مقابل ولائهم السياسي، بل إنّ مِن هؤلاء الذين جرى احتواؤهم مَن أمسى لاعباً رئيسياً في الحياة السياسية للسلطة الفلسطينية.
استغلالُ المنصب الرسمي لتحقيق مكاسبَ شخصية هو وجه آخر من اوجه الفساد. وتشمل الحالات التي تخرج إلى العلن الاستخدامَ غير المشروع للموارد العامة لأغراض شخصية، وإبرامَ صفقات غير قانونية بين القطاعين العام والخاص، وسرقة الممتلكات العامة. وكانت هذه الممارسات تحدث بوتيرة منتظمة في التسعينيات، وأثرت سلباً في النظرة المحلية والدولية تجاه السلطة الفلسطينية، حيث وجدت أول عملية تدقيق ورقابة فلسطينية أجريت في 1997 أن قرابةَ 40% من ميزانية السلطة الفلسطينية قد أُسيء استعمالها. وبحسب تقرير مؤسسة (أمان) لعام 2008، يتجلى استغلال المنصب العمومي بهدف اختلاس المال العام وإهداره في عملية تخصيص أراضي الدولة للأفراد أو الشركات. وكشف تقرير المنظمة ذاتها لعام 2011 عن استمرار هذا النهج، كما اشار تقريرها الاخير الى تقاضي بعض مسؤولي القطاع العام راتباً شهرياً يفوق 10,000 دولار أميركي بالإضافة إلى امتيازات أخرى، وعلى النقيض من ذلك، يتقاضى ثلثا موظفي القطاع العام ما بين 515 و640 دولار شهرياً. في حين، اشار مؤشرُ جيني العالمي الذي صدر في عام 2013 الى التفاوت الهائل في مستويات الدخل بين كبار المسؤولين وبقية موظفي السلطة الفلسطينية.
تساهم إسرائيل أيضاً في تعزيز فساد السلطة الفلسطينية وتستغله وغالباً ما تلقي باللائمة على مشاكل الفسطينيين الاقتصادية وذلك لكي تصرف الانتباه عن الأثر المدمر الذي تلحقه سياساتها الاستعمارية بالتنمية الاجتماعية والاقتصادية الفلسطينية. كما انها تضطلع بدورٍ أساسي في تعزيز الفساد وحماية الفاسدين بطرق ووسائل عديدة، كعلاقتها المباشرة «بالحسابات السرية» التي فتحها بعض المسؤولين الفلسطينيين في عقد التسعينيات حول العالم، بما في ذلك في بنك لئومي الإسرائيلي. فالكثير من أموال تلك الحسابات جاء من الضرائب التي جبتها إسرائيل على الواردات الفلسطينية، ومن ثم حوَّلتها مباشرةً إلى تلك الحسابات.
أسَّست السلطة الفلسطينية في عام 2010 هيئةَ مكافحة الفساد الفلسطينية لجملة أسبابٍ منها الاستجابة للاستياء الشعبي. كلفت هذه الهيئة باستقبال شكاوى الجمهور وضمان التعامل مع قضايا الفساد بسرعة وفاعلية. ورغم أن الهيئة توصف بأنها مستقلة، مالياً وإدارياً، فإن رئيسها معينٌ بموجب مرسومٍ رئاسي، والعديدُ من أعضاء مجلسها الاستشاري سبقَ أن شغلوا مناصبَ رسميةً كوزراء وسفراء ومستشارين للرئيس. ورغم أن بعض قضايا الفساد أُحيلت على القضاء، فإن التحقيقات اتسمت بالانتقائية. وعلاوةً على ذلك، تشير الاستطلاعات إلى أن الرأي العام أخذَ يفقد الثقة في الهيئة بوتيرة متنامية، ويعتقد بأن الرئاسة والأجهزة الأمنية والأحزاب السياسية تتدخل في عملها بانتظام.
إن القضاء على الفساد بفاعلية يتطلب استجابةً هيكلية تطاول النظام السياسي برمته، تنطوي على إيجاد نظامٍ رقابي تشريعي ومؤسسي تمثيلي ووطني فعال، وضبطَ وموازين مؤسسيةٍ، وقضاءٍ مستقل وفاعل حيث تُسحب حصانةُ أي شخصٍّ يتورط تورطاً مباشراً أو غير مباشر في سوء استخدام السلطة السياسية والموارد العامة، بغض النظر عن منصبه. الامر الذي يتطلب ان يضطلع ممثلو المجتمع الأهلي بدورٍ فعال في ممارسة الرقابة على المؤسسات والموارد العامة. ولأن صناعة المعونة الدولية تُعتبر أرضاً خصبةً للفساد وتنقصها المساءلة، سيحتاج نظام المعونة القائم إلى إصلاحٍ جذري يضمن ألا يساهمَ في تعزيز الفساد.
سوف يظل الفسادُ مستحكماً في الجسم السياسي الفلسطيني ما تقاعسَ الفلسطينيون عن إعادة هيكلة مؤسساتهم الوطنية بأنفسهم وفقًا لمبادئ الديمقراطية، والإصرار على المساءلة، بالتزامن مع العمل من أجل تقرير المصير ونيل الحرية والعدالة. فثمة حاجة ملحة لتأكيد إرساء مبدأ المساءلة في النظام السياسي الفلسطيني باعتباره جزءاً رئيسياً في جهود استنهاضه. فالفساد عاملٌ رئيسي في عجز الحركة الوطنية الفلسطينية عن تحقيق أهدافها وهو الآن يخدم أهداف الاحتلال الإسرائيلي وسيظل مستشرياً داخل السلطة الفلسطينية ما لم يشرع الفلسطينيون أنفسهم في إعادة هيكلة مؤسساتهم الوطنية وفق المبادئ الديمقراطية والمساءلة، ضمن استراتيجيةٍ أوسع نطاقاً تسعى لتقرير المصير وإعمال الحقوق الوطنية الفلسطينية، بما فيها التحرر من الاحتلال.
(*تستند هذه المقالة على الورقة السياساتية للشبكة بعنوان "الفساد في فلسطين: نظامٌ متجدد" والتي يمكن قراءتها باللغتين العربية والانكليزية عبر الرابط التالي http://bit.ly/1Ll9JuA )
* مستشار سياساتي
لـ«شبكة السياسات الفلسطينية»