بعد انقلابه على الانتخابات البرلمانية، التي جرت في 7 حزيران، وإعلان الحرب على حزب «العمّال الكردستاني» وتجميد عملية السلام، احتدم الصراع بين الطرفين، وبدا أنّ تركيا تعود إلى فترة التسعينيات التي شهدت صراعاً عسكرياً أودى بحياة أعداد كبيرة من الطرفين.
أتت هذه الحملة في ظلّ قرار أردوغان فتح قاعدة «أنجرليك» إضافة إلى قواعد أخرى للأميركيين، بعد إذعانه لقرار قتال داعش، إلى جانب قوات التحالف، بعد تسعة أشهر من المفاوضات مع الأميركيين. أيقن أردوغان، بعد خسارة مشروعه الرئاسي، وخسارة حزب العدالة والتنمية حقّه في تأليف الحكومة منفرداً، بأن عليه التوجّه للداخل، من أجل استعادة سلطته. تحرّك سريعاً، وأوحى أنه بدأ محادثات من أجل الائتلاف مع حزب «الشعب الجمهوري»، وإخراج مسرحية، لعبها داوود أوغلو دون نجاح، لا سيّما أنّ أردوغان لم يسمح له بذلك، لكونه كان يخشى أي احتمال تحالف بعد تقديم حزب «الشعب الجمهوري» تنازلات تحسب له من أجل إنجاح عملية الائتلاف. قرار أردوغان بالعودة إلى انتخابات مبكرة، أتى عشية انتهاء فرز النتائج في 8 حزيران. ماطل حتى انقضاء فترة الـ45 يوماً، التي أقرّها الدستور من أجل تأليف الحكومة. تجاوز الدستور الذي يحتّم عليه إعطاء حزب «الشعب الجمهوري» فرصة لتأليف حكومة.

بحسب استطلاعات
الرأي، فإن حزب العدالة
والتنمية سيكون قاصراً عن
تأليف الحكومة منفرداً

بدت اللعبة واضحة بعد أن استعملت فيها كل الأساليب الإعلامية والعسكرية والأمنية، لإظهار الحكومة التركية وكأنها تواجه انفصالاً، وحكماً ذاتياً كردياً، ما قد يكسبه أصوات القوميين الأتراك ضدّ الأكراد. لكن المناطق الكردية تحوّلت إلى دشم تسدّ الطريق بوجه الجيش، ما وضع تركيا، برمّتها، في حال هلع من عودة الوضع الأمني إلى التوتر، بعدما تراجع سعر الليرة التركية، إضافة إلى جمود الحركة الاقتصادية. زجّ بأعداد من اليساريين المعتدلين، والمتطرفين، والأحزاب الشبابية الكردية، في السجون، واتهم حزب «الشعوب الديموقراطي» بأنه الوجه السياسي لحزب «العمال الكردستاني»، في الوقت الذي لم يتمّ فيه القبض سوى على 100 عنصر يشتبه في انتمائهم إلى «داعش».
رمت خطة أردوغان إلى إضعاف قوة حزب «الشعوب الديموقراطي»، ويراهن اليوم على خسارة حزب «الشعوب الديموقراطي» إذا لم يستطع الوصول إلى عتبة الـ10%، بحيث ستجيّر هذه النسبة لحزب «العدالة والتنمية». من أجل ذلك ذهب إلى انتقاد من صوّتوا لحزب «الشعوب الديموقراطي»، واعتبره حزباً فاشلاً بسبب عدم فهمه لعملية السلام مع الأكراد، التي تعني ضرورة الابتعاد عن حزب «العمال الكردستاني».
بدت فكرة تجميد عملية السلام مع الأكراد في البداية كأنها استجابة لشرط من شروط حزب «الحركة القومية». لكن جرى الابتعاد عن الائتلاف معه أيضاً. وبالرغم من إصرار المسؤولين الحكوميين على أنهم ليسوا ضد الأكراد، بل همّهم هو مقاتلة إرهاب حزب «العمال الكردستاني»، إلا أنّ دوامة العنف بدأت تخرج عن السيطرة، والاستمرار في مدّ الحريق ستكون له عواقب اجتماعية عميقة.
لا يبدو أن صراع أردوغان، في انتخابات الأول من نوفمبر، سيكون مع حزب «الحركة القومية» أو حزب «الشعب الجمهوري» الذي يتمتع بكتلة ثابتة، بل معركته ستكون مع حزب «الشعوب الديموقراطي»، وهذا ما سيحدّد مآل سلطته. هو يعتقد أنّ الاضطرابات تخدم مصالحه السياسية، فقد أعلن استحالة استكمال عملية السلام مع الأكراد، في ظل الوضع الراهن، رغم دعوة الاتحاد الأوربي وواشنطن إلى عدم ضرب هذه العملية، وحاول الإيحاء بأن اتفاقاً ما جرى بينه وبين الأميركيين، سيدفع ثمنه الأكراد. من أجل ذلك بدت الموافقة التركية على استعمال قاعدة «أنجرليك» وكأنها خطوة مدروسة للانقلاب على نتائج الانتخابات الديموقراطية، في7 حزيران. لكن واشنطن وضعت الأمور في نصابها، فشددت على أنّ التعاون بينها وبين تركيا يدخل البلدان في عملية تنسيق طويلة الأمد، وأنه ليس هناك أي اتفاق مقابل السماح باستعمال قاعدة «أنجرليك»، كضرب حزب «العمال الكردستاني». كذلك ستستمرّ الطائرات الأميركية في القيام بغطاء جوّي لحماية حزب «الاتحاد الديموقراطي» و»قوات الحماية الكردية». وكرّرت أميركا أنه لا منطقة عازلة، ولا منطقة حظر طيران، بل منطقة خالية من «داعش»، ولا تدخل لقوات برية تركية أو أميركية.
لم يتأخر أردوغان في إشغال الداخل والتصريح بأن الدستور قد تغيّر، وأنه كان على الشعب التركي أن يدرك أنّ انتخاب الرئيس من قبل الشعب يعني تغييراً للدستور، ولصلاحيات الرئيس، بقوّة الأمر الواقع، وبأنه سيمارس صلاحياته جميعها. وفي ظلّ الإعداد للانتخابات يأتي إعراض كل من حزب «الشعب الجمهوري» وحزب «الحركة القومية» عن المشاركة في الحكومة الانتقالية ليعطي، ولو عن غير قصد، حزب «الشعوب الديموقراطي» المجال في الإصرارعلى ممارسة حقه في المشاركة في الحكومة الانتخابية، ما سيضعه إلى جانب حزب «العدالة والتنمية»، ويحرج هذا الأخير، ويعطي الناخب صورة تضم الحزبان في حكومة واحدة، وبذلك سيبدو حزب «الشعوب الديموقراطي» كأنه تخطّى دعوات محاكمته، أو إقصائه كحزب، كما نادى خصومه، متهمين إياه بأنه الغطاء السياسي لحزب «العمال الكردستاني».
يصرّح أردوغان ورئيس وزرائه المؤقت داوود أوغلو بأنّ الإحصاءات تدل على أنّ المزاج التركي لا يمانع الضربات الموجّهة إلى حزب «العمال الكردستاني»، لكنّهما لا يؤكدان أنّ العملية تضرب استقرار تركيا الأمني والاقتصادي. هي سياسة حصد المكاسب الشخصية، التي يتصوّر أردوغان أنها ستعطيه ما كان يريد، وتحول دون تعرّضه لحكم إساءة استخدام السلطة، والفساد، مع العلم بأنّ هذه الحرب يمكنها أن تعيد توحيد القوة الكردية، ككتلة انتخابية ضد حكومة أنقرة، إذ يمكن أن يتحالفوا مع العلويين، ومع أحزاب المعارضة، وهؤلاء يمثلون، مع الأقليّات الأخرى، أكثر من نصف الشعب التركي. وتفيد استطلاعات الرأي، التي جرت مؤخراً، بأنّ حزب «العدالة والتنمية» سيكون قاصراً عن تأليف حكومة وحده، كما يريد، إذ يمكنه أن يصل إلى عتبة 41,7 %، في حين كان قد نال 40,9% في انتخابات 7 حزيران، أمّا حزب «الشعب الجمهوري» فسينال 25,5%، وحزب «الحركة القومية» 15,6%، وحزب «االشعوب الديموقراطي» 13,1 %. وتقول استطلاعات شركة «آنار»، المقرّبة من حزب «العدالة والتنمية»، إنه لن يكون هناك تغيير من الناخبين في الانتخابات المقبلة، بالرغم من التطورات التي حدثت، كالعمليات الإرهابية، والتدهور في الوضع الاقتصادي، وإنّ حزب «العدالة والتنمية» سيحصل على 1، أو 2% مع هامش خطأ. فقط حزب «الشعوب الديموقراطي» هو من سيفوز في جوّ الإرهاب الذي يسود تركيا.
بعد سحب صواريخ الباتريوت، يتّضح أن الحدود التركية ــ السورية ستسلّم للتنسيق العسكري الأميركي ــ التركي، فيما يصارع أردوغان لاستعادة سلطته في الداخل.
* باحثة لبنانية