محارق نتنياهو: الردع النكبوي وجهٌ آخر للقتل النكائي
قبل استشهاد قائد ومهندس «طوفان الأقصى»، أبي إبراهيم السنوار، بيومين، ارتكب طيران الكيان محرقة جديدة بحق سكان مخيم طارئ أقامه النازحون قرب مستشفى شهداء الأقصى بدير البلح ليلة الإثنين 14 تشرين الأول. راح ضحية هذه المحرقة العشرات من المدنيين الأبرياء كشهداء وأصيب عشرات آخرون، الذين لاذوا بجوار المستشفى ظناً منهم أن المستشفيات تبقى أكثر أمناً من غيرها. لقد أُحرق الضحايا حتى الموت وهم نيام، حيث ظلت نيران القنابل تلتهم الخيام بمن فيها لمدة 45 دقيقة قبل أن تنجح طواقم الدفاع المدني في السيطرة عليها. ولم تكن هذه المحرقة الأولى من نوعها، إذ سبقتها محارق لعل أفظعها محرقة خيام النازحين قرب مخازن «الأونروا» برفح في 27 أيار - مايو 2024 وأسفرت عن استشهاد وإصابة مئة نازح من سكان المخيم. بعد هذه المحارق شاع وتكرّس مصطلح «الردع النكبوي» في كلام المحللين والمعلقين السياسيين العرب والأجانب.
محارق توراتية بمذاق داعشي
وتأتي هذه المحارق في سياق إبادي فاشيّ يتكئ على سردية دينية خرافية يعترف بها ويستشهد بها قادة دولة العدو. ورغم وضوح الصورة يبدو أن أيّ مقارنة ومماثلة بين السلوك الصهيوني التوراتي لحكومة نتنياهو والسلوك الدموي للمنظمات السلفية الانتحارية خلال السنوات الماضية، كـ»داعش» و»القاعدة»، هي مقارنة مرفوضة أو ممتنعة لا يريد البعض مقاربتها خوفاً أو جهلاً.
نعم، هناك مَن لا يريد تصديق أن حكومة نتنياهو توراتية تكفيرية من النمط الداعشي، لأنه لا يجرؤ على أن يكفر بمقولة «إسرائيل هي الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط» فكيف يجرؤ على مماثلتها بـ»داعش»؟ والبعض الآخر قد يجد رائحة هجاء لدينه في هذا القول، وهذا تفكير ملتبس يساوي بين «داعش» والإسلام وفق القراءة الاستشراقية من النوع العنصري الحيوي (Bio-orientialism) والتي تنظر إلى المسلمين جميعاً كدواعش جينياً وتراثاً وسلوكاً في حين أن «داعش» وإسرائيل مُنتَج غربي من الألف إلى الياء، وهما أوغلا وولغا في دماء العرب المسلمين قبل غيرهم من أهل الأديان الأخرى!
الردع النكبوي الصهيوني
الردع النكبوي هو أن تُلْحِقَ قوةٌ محاربةٌ نكبةً أو كارثةً بشريةً بالعدو عبر مجزرة بحق جمهوره. وقد شاع هذا المصطلح بعد محارق نتنياهو في غزة، ولكنه قديم في تأريخ الحروب بين البشر، وحديثاً يمكن التذكير بمثالين: الأول هو المحارق النازية بحق اليهود الهولوكوست «الشَّوا»، والثاني هو القصف الذري الأميركي على هيروشيما وناغازاكي، الذي يتفق معظم المؤرخين والمنظّرين العسكريين على أنه كان نافلاً لا ضرورة عسكرية له على الإطلاق بعد هزيمة اليابان فعلياً، لا يتجاوز الدافع له الإطار النفسي الثأري من الضربة اليابانية لميناء بيرل هاربر الأميركي خلال الحرب. وبهذا فقد أثبت الكيان العنصري التوراتي الصهيوني أنه خير سليل مباشر للثقافتين النازية الألمانية والفاشية الأميركية!
يقول الخبير الفلسطيني في الشؤون الإسرائيلية إيهاب جبارين، في معرض تعليله للجوء حكومة نتنياهو إلى الردع بالنكبات، إن «نتنياهو جرَّب القتال بجميع أساليبه ولكنه فشل في إنهاء المقاومة أو في تهجير الفلسطينيين أو حتى في استعادة المحتجزين لدى المقاومة، ولذلك فليس بحوزته الآن أيّ بضاعة جديدة يقدّمها للشارع الإسرائيلي، ولذلك لجأ في الأيام الأخيرة إلى ما يُسمى الردع النكبوي من خلال المحارق الجوية العقيمة بحق السكان العُزّل النازحين في خيامهم».
القتل النكائي لدى السلفية الداعشية
إنَّ المجازر التي يرتكبها العدو منذ الثامن من تشرين الأول 2023 ليست إلا نوعاً من الردع بالنكبات بحق الفلسطينيين واللبنانيين، وقد لا تكون آخرها محرقة مخيمات اللاجئين بجوار مستشفى شهداء الأقصى في دير البلح. وفي الواقع ليس مجهولاً أن نتنياهو وتحالفه الصهيو-ديني الحاكم يستمدان خطابهما وسلوكهما الإجرامي من بعض صفحات التوراة التي لا تخلو كسائر كتب التراث القديم من حيثيات كهذه تنبغي قراءتها في سياقها الخاص لا خارجه. إن هذا الردع النكبوي شبيهٌ شكلاً ومضموناً بما تسميه المنظمات التكفيرية المسلحة مثل «داعش» بالقتال أو القتل النكائي، وكنت قد تطرّقت إليه في مناسبة سابقة (27 تشرين الثاني 2013). فما المقصود بهذا الأسلوب الإجرائي الذي يذهب المدنيون دائماً ضحية له باختصار؟
اصطلاحاً، يُقصد بالقتال النكائي قتل أو جرح أو تعذيب العدو وإيذاؤه مادياً ومعنوياً، هو أو مَن يُنسب إليه نكاية به وثأراً مما قام به، دون أنْ يكون الهدف من ذلك تحقيق نصر عسكري عليه. بمعنى، أن الهدف منه تحقيق هدف نفسي لا يتعدى التفريغ النفسي المرضي والتشفّي بالعدو عبر الانتقام منه بإيذائه جسدياً ومعنوياً بقصد الثأر منه وإذلاله.
وحتى في داخل التيار السلفي الداعشي كان القتل النكائي موضوع خلاف بين شيوخ هذا التيار، فلم يكن الجميع متفقين في ما بينهم على ضرورته وشرعيته. فالشيخ البرقاوي (أبو محمد المقدسي، وهو أستاذ التكفيري المتطرف أحمد الخلايلة الزرقاوي)، انتقد تلميذه على اللجوء إلى القتال النكائي خشية أنْ يُقتل فيه مسلمون أبرياء. وكتب له في إحدى رسائله النُّصْحيَّة: «إنَّ الخطأ في ترك ألف كافر يسلَم وينجو فيفر من أسر المجاهدين أهون عند الله من سفك دماء مسلم واحد». ولكن الزرقاوي لم يستمع إلى نصيحة شيخه فأوغل في دماء العراقيين من جميع الطوائف.
إنَّ وجود هذا الخلاف الداخلي يُحسب طبعاً لمصلحة السلفيين الانتحاريين، ولكننا لا نكاد نجد معترضاً على القتل النكائي بصيغته الصهيونية «الردع النكبوي» في الوسط الاستيطاني الصهيوني، وهذا عائد إلى طبيعة العقلية الاستيطانية التي لا ترى أي حل آخر غير إبادة العدو صاحب الأرض واجتثاثه جسدياً وتراثياً وفكرياً، بالضبط كما حدث للسكان الأصليين في القارتين الأميركيتين وأستراليا على أيدي الغزاة الأوروبيين!
إبادة العدو وشعبه في التوراة
في التوراة، ورد القتل النكائي بمعناه السالف الذكر ولكن من دون تسميته بهذا الاسم؛ لا بل وردت في بعض أسفارها دعوة صريحة لإبادة شعب العدو إبادة، بعد الانتصار على جيشه، إبادة مبرمة لا تستثني حتى الحيوانات. ففي التوراة، سِفر صموئيل الأول، نقرأ: «فالآن اذهب واضرب عماليق، وحرّموا كل ما له ولا تعف عنهم بل اقتل رجلاً وامرأة، طفلاً ورضيعاً، بقراً وغنماً، جملاً وحماراً».
وبتاريخ 28 أكتوبر 2023 استشهد نتنياهو بهذا السفر وقال محرّضاً جنوده على قتل الفلسطينيين خلف العماليق: «يجب أن تتذكروا ما فعله عماليق بكم، كما يقول لنا كتابنا المقدس. ونحن نتذكر ذلك بالفعل، ونحن نقاتل بجنودنا الشجعان الذين يقاتلون الآن في غزّة وحولها وفي جميع المناطق الأخرى في إسرائيل».
وعماليق، قبيلة من البدو الرحّل سكنوا شبه جزيرة سيناء وجنوبي فلسطين، وصارت تعني في الثقافة التوراتية «ذروة الشر الجسدي والروحي». وهناك باحثون يعتقدون بأن تعريف عماليق يشمل قبائل البدو القديمة في بادية الشام والعراق، وأن العموريين والهكسوس (الملوك الرعاة) إخوة لهم. ومن تبقّى من هؤلاء اندمجوا مع العرب واستعربوا بعد الميلاد تدريجياً.
وفي سفر العدد 31 نقرأ: «فالآنَ اَقْتُلوا كُلَّ ذَكَرٍ مِنَ الأطفالِ وكل امرأةٍ ضاجعَت رَجلاً»، أما في سفر التثنية 20 فنقرأ: «فإذا استسلمت وفتحت لكم أبوابها، فجميع سكانها يكونون لكم تحت الجزية ويخدمونكم. وإنْ لم تسالمكم، بل حاربتكم فحاصرتموها فأسلَمها الرب إلهكم إلى أيديكم، فاضربوا كل ذكر فيها بِحد السيف... هكذا تفعلون بجميع المدن البعيدة منكم جداً... وأما مدن هؤلاء الأمم التي يعطيها لكم الرب إلهكم ملكاً، فلا تبقوا أحداً منها حياً بل تحللون إبادتهم، وهم الحثيون والأموريون والكنعانيون والفرزيون والحويون واليبوسيون، كما أمركم الرب إلهكم».
من المعروف علمياً أن هذه النصوص الحَدَثيَّة التأريخية في الكتب الدينية عموماً لها سياقها الخاص، ولا يمكن قراءتها نقدياً أو اقتباسها بهدف الإسقاط على الظروف المعاصرة وبسلخها عن سياقها وظروفها الخاصة كما يفعل المتهوّد البولوني الأصل بنيامين ميليكوفسكي (نتنياهو). وحين أتطرّق إليها هنا فمن باب التوثيق لمن يستشهد بها من المعاصرين، ويزجّ بها في معارك وحروب ليست من طبيعتها، ومن أجل…