لم تشارك حركة «النهضة»، طوال تاريخها، في أيّ انتخابات رئاسية. قبل سقوط الديكتاتورية، لم يكن يُسمح لـ«النهضة» بالترشح أمام الحبيب بورقيبة أو زين العابدين بن علي، أما بعد سقوطها فقد اختارت الابتعاد عن هذا المنصب لحسابات سياسية. بداية، مع تشكيل «المجلس التأسيسي»، الذي تولى كتابة الدستور الجديد والقيام بأدوار البرلمان (2011 ــــ 2014)، دخلت «النهضة» في تحالف ثلاثي تولّت بموجبه رئاسة الحكومة التي نالت أكبر الصلاحيات التنفيذية، فيما اقتسم شريكاها رئاسة البرلمان ورئاسة الجمهورية. عام 2014، نُظّمت أول انتخابات اختار خلالها الشعب رئيسه مباشرة، وفضّلت «النهضة»، ضمن سياستها لتجنّب الحكم منفردة، والتي تعزّزت بما حصل في مصر، عدم تقديم مرشح. الخيار حينها كان صعباً، وانقسمت مؤسسات «النهضة» إلى عدة آراء: إما مواصلة التحالف الثلاثي ودعم منصف المرزوقي، أو البحث عن حلفاء جدد، أو ترك الأفق مفتوحاً. في النهاية، وقع تبنّي ما سُمّي حينها «تحرير التصويت»، أي ترك الحرية لأنصار الحركة للتصويت لِمَن يرونه صالحاً، لكن مع ذلك صوّت أغلب هؤلاء لمنصف المرزوقي (لاحقاً، قال الغنوشي ومورو إنهما صوّتا للرئيس الراحل، الباجي قائد السبسي).خلال هذه الانتخابات، وقعت حركة «النهضة» في المأزق نفسه. فحليفها المتأخر، قائد السبسي، توفي. وحليفها السابق، المرزوقي، صار يعاديها. طوال أشهر، ظلّت قيادات الحركة تكرّر حديثها القديم حول البحث عن مرشح يحظى بإجماع واسع، أو ما أطلق عليه راشد الغنوشي وصف «العصفور النادر» القادر على توحيد التونسيين حوله. أخيراً، حُسم الموقف قبل أيام من غلق باب قبول الترشحات، واختار مجلس شورى الحركة عبد الفتاح مورو. مورو شخصية فريدة داخل «النهضة» وفي السياسة التونسية بصفة عامة. بدأ الرجل مسيرته في المدينة القديمة في العاصمة، مسقط رأسه، حيث نشط في مساجدها منذ شبابه المبكر. احتكّ مورو خلال انطلاقته بالمشائخ التقليديين من خرّيجي «الزيتونة»، لكن تحوّله من التدين الفردي إلى الدعوة جاء عند اقترابه من جماعة الدعوة والتبليغ، حيث تعلّم منها الحديث إلى الناس وأساليب الإقناع، وهو يشترك في ذلك مع راشد الغنوشي الذي تعرّف إلى الجماعة عند ارتحاله من دمشق إلى باريس.
واصل مورو أنشطته الدعوية في مساجد المدينة القديمة، وتابع الانغماس في التلقي عن الشيوخ التقليديين، بما في ذلك مسلكهم في التصوف والدعوة والتبليغ. زاول الرجل تعليمه في الصادقية، أولى المدارس الحديثة في تونس. وعلى رغم انتقاله لاحقاً لدراسة القانون في الجامعة، إلا أنه أردف ذلك بدراسة الشريعة في جامعة الزيتونة.
لا يشكّك أحد في أن الرجل خطيب وكيّس، لكنه يُسمِع محاوره ما يريد سماعه


لا يمكن الحديث عن مورو من دون الحديث عن الغنوشي. حصل اللقاء الأول بينهما عام 1969، وتم في جامع يوسف داي الذي يقع، لسخرية القدر، على بعد أمتار من المقار الحكومية الرئيسة في القصبة في المدينة القديمة. حينها، كان مورو يشقّ طريقه كقيادي دعويّ عبر تزعمه الخطابة في المسجد، فيما كان الغنوشي شاباً متديناً عائداً من فرنسا ويحمل تجربة في المشرق العربي. تدريجياً، تطورت النقاشات بين الرجلين وشخصيات أخرى ابتعدت لاحقاً عنهما، وقادت إلى خلاصة مهمة مفادها الحسم في فشل التجارب السياسية القائمة: مشروع بورقيبة الحداثي وشقّه الاقتصادي الاشتراكي، ومشروع القومية العربية الناصري والبعثي. تركزت الفكرة المركزية حينها حول ضرورة إحياء الدين وإعطائه مكانة أكبر في حياة الناس والمجتمع، وشُذّبت بالاطلاع على أدبيات «الإخوان المسلمين» ومنظّرين إسلاميين آخرين مثل علي شريعتي ومحمد باقر الصدر.
مع تصاعد النشاط اليساري في تونس، وسعي النظام إلى تحجيمه، فُتحت مساحات نشاط جديدة أمام هذه «الجماعة الإسلامية» الوليدة. تولى مورو مهمات الدعوة والخطابة، وكان أحد أقطاب حفنة صغيرة من الخطباء الشباب القادرين على حشد أعداد كبيرة من الناس، لكن خطابه كان عاطفياً، قائماً على إبكاء الناس وحثّهم على التديّن. المسائل السياسية تُركت للغنوشي، الذي قام بدور رجل التنظيم والتنظير، وكانت صفاته الشخصية على النقيض من مورو، يطبعها التحفّظ والسرية. وبينما كان النظام يحارب اليسار، تربّى في الظلّ كائن سياسي إسلامي، وعندما حاول ترويضه، انفلت من عقاله وقرّر المواجهة. تصاعدت الصدامات بين نظام بورقيبة وحركة «الاتجاه الإسلامي» خلال الثمانينيات، وبينما قرّرت الأغلبية البقاء في تونس، لجأ مورو خارجها، وطاف بين فرنسا وألمانيا لينتهي به المطاف في السعودية التي احتفت به سلطتها ومنحته إقامة ووظيفة وجواز سفر.
لم يعد مورو إلى تونس إلا مع وصول بن علي إلى السلطة، حيث سنّ الجنرال حينها عفواً عن الإسلاميين. لوهلة، بدا أن الودّ السمة الغالبة في العلاقة، حيث وافق الإسلاميون على شروط بن علي في البداية، وغيّروا اسم تنظيمهم إلى «حركة النهضة» من دون أن ينالوا رخصة نشاط، ووقعوا على «الميثاق الوطني». لم يستمر الوئام طويلاً، وقرّر بن علي إنهاء الحركة قبل أن تنهيه، وخاصة مع إحيائها تنظيمها السري ومحاولتها اختراق المؤسسات الأمنية. مع عودة المواجهة بين النظام والإسلاميين، رفض مورو أن يكون جزءاً من المعركة، فدان العنف الذي ارتكبه بعض «النهضويّين»، وأخذ يبحث عن خلاصه الفردي. ومع وجود الإسلاميين في السجن والمهجر، ظلّ مورو طليقاً. وعلى رغم استمرار التضييق، مضى ليصير أحد أشهر وأنجح المحامين في البلاد.
بعد سقوط نظام بن علي، أحيت حركة «النهضة» وجودها، ولم يكن مورو ضمن حساباتها، إذ لم يغفر له كثير من القياديين انسحابه من المعركة. مع ذلك، قرر الرجل عدم الاستسلام، فهاجم «النهضة» وترشح في انتخابات المجلس التأسيسي على رأس قائمة مستقلة، لكنه لم يفز. بعد هذه الهزيمة، تعلّم عبد الفتاح مورو الدرس، إذ لا قيمة للخطابة والدعوة من دون تنظيم، وحينها تدخّل راشد الغنوشي لإعادته إلى الحركة، التي عيّنته نائباً له، في المركز الثاني الذي اعتاد عليه لعقود. على مدى الأعوام اللاحقة، تقلّبت صورة مورو لدى الرأي العام. أثناء زيارته الشهيرة لتونس، أطلق وجدي غنيم تصريحات استفزت طيفاً واسعاً من التونسيين. حينها، توجّه إليه مورو واجتمع به على نحو منفرد، لكن تسرَّب شريط فيديو لجزء من اللقاء يقول له فيه: «نحن (أي النهضة) لا نستهدف كبار السنّ بل أبناءهم». في مناسبة أخرى، دافع مورو خلال محاضرة له عن المفكّر يوسف الصديق، فأدمى أحد السلفيين رأسه بكأس. لا يشكّك أحد في أن الرجل خطيب وكيّس، لكنه يُسمِع محاوره ما يريد سماعه، ويتغيّر خطابه بتغيّر السياقات، ما يجعل من الصعب تحديد مواقف ثابته له.
أثناء انعقاد اجتماع مجلس الشورى الأخير لحركة «النهضة»، عارض كثيرون ترشيح عبد الفتاح مورو، فيما دافع عنه الغنوشي. وبعد إعلان القرار للعموم، قال مراقبون إن الأمر لا يعدو مناورة من الغنوشي، إما لإنهاء مورو سياسياً أو لاستعماله كورقة تفاوض، أو الاثنين معاً، لكن يمكن قراءة الأمر أيضاً على أنه عربون وفاء من الغنوشي لرفيقه المؤسس. حتى الآن، تبدو حظوظ الرجل قوية لتحقيق نتائج انتخابية جيدة، وهو يحافظ على موقع بين المترشحين المتصدرين لنوايا التصويت. أمضى مورو الجزء الأكبر من حياته السياسية في ظلال الغنوشي كرجل ثانٍ في التنظيم، وقد تكون هذه الفرصة الوحيدة المتاحة له ليصير الرجل الأول في البلاد.