لكن، على غرار هجوم قوات ترهونة، جاءت النتائج على غير ما يرجو حفتر. وعلى رغم أن قواته نجحت في تركيز موطئ قدم في الأحياء الجنوبية لطرابلس، مثل قصر بن غشير وطريق المطار والعزيزية، إلا أنها سرعان ما خسرتها مع تنظيم صفوف القوات الموالية لحكومة الوفاق، واستقدام تعزيزات من مصراتة (نحو 180 كيلومتراً شرقيّ العاصمة)، ونجاحها في كسب دعم المكونات الاجتماعية في أحياء غرب طرابلس ومدنها. ويعود فشل قوات حفتر في اختراق أحياء طرابلس الجنوبية ذات الكثافة السكانية العالية، إلى افتقادها الدعم المحلي، على عكس الميليشيات الموالية لـ«الوفاق»، المرتبطة بوزارتَي الداخلية والدفاع، التي ينحدر مقاتلوها من تلك الأحياء، أو كان لهم وجود فيها لأعوام.
كسب دعم سكان تلك الأحياء لا يعود ضرورة إلى موالاتهم لتلك الميليشيات، فهم عانوا لأعوام من عدم انضباط مقاتليها، ومن الهيمنة التي مارسوها على مؤسسات الدولة. يجب أيضاً إرجاع أسباب هذا الدعم، الثابت حتى الآن، إلى اللغة التهديدية، ذات البعد القبلي أو المناطقي، التي يستخدمها بعض مقاتلي حفتر في أشرطة فيديو وتدوينات على مواقع التواصل الاجتماعي. ولا يجب إغفال أن قوات حفتر، في جزء كبير منها، ميليشيات لا تختلف كثيراً عن تلك المسيطرة على طرابلس. بناءً على ذلك، يمكن القول إن جزءاً كبيراً من سكان طرابلس يفضلون التمسك بالوضع القائم، على خيار دعم هجوم قد يفضي إلى واقع أسوأ.
بدأ فشل حفتر على الأرض ينعكس في مواقف الدول الداعمة له
هذه اللحمة التي شكلتها وحدة الحال في غرب البلاد، بداية بين السكان، ثم بين ميليشيات الأحياء والمناطق التي أمضت وقتاً طويلاً وجهداً كبيراً في التقاتل فيما بينها سابقاً، تمثل أكبر العقبات أمام حفتر، الذي ظن أنه يمكنه الاستفادة من تناقضاتها. فهو لم يستطع سوى كسب ولاء مدينتَي غريان وترهونة، وبعض الأعيان في مدن أخرى، وذلك بسبب تقصير «الوفاق»، وهو أمر أقرّ به رئيس المجلس الأعلى للدولة (استشاري)، خالد المشري، في ندوة صحافية عقدها أمس، بالقول: «ممثلون من مدينتَي غريان وترهونة كانوا يشتكون من أن حكومة الوفاق مقصرة في أعمالها. نعم نحن نعترف بأن هناك تقصيراً حاداً من حكومة الوفاق، لكنهم كمن يستجيرون من الرمضاء بالنار، من تذهبون إليه أكثر بلاءً»، بل ذهب إلى أنه يمكن أن يجد أعذاراً لهم بقوله: «لا نجد أعذاراً لهذا الإرهابي (حفتر)، وربما وجدنا أعذاراً لبعض قواته... هم إخوان لنا بغوا علينا»، مؤكداً وجود تواصل مع المدينتين لاستعادة ولائهما. وتجدر الإشارة، هنا، إلى أن المشري عضو في حزب «العدالة والبناء»، الذراع السياسية لجماعة «الإخوان المسلمين»، وكان قد أعلن مطلع هذا العام استقالته من الجماعة بهدف «العمل بعيداً عن شعارات أو أسماء قد تستخدم لضرب وحدة المجتمع».
ما يحصل على الأرض لا شك في أنه ينعكس على مواقف الدول الخارجية، ولا سيما الداعمة لحفتر. وفي هذا الجانب، كشف المشري عن جانب من اتصالات حفتر بداعميه، قائلاً إن الأخير «أعطى معلومات لدول تواصلنا معها، عن أنه يستطيع أن ينهي معركة طرابلس خلال 24 ساعة. (لكنه) الآن بعد نحو أسبوعين (من الهجوم)، صار يطلب مهلة شهر وشهرين». ومن المعلوم أن الإمارات والسعودية ومصر وفرنسا وروسيا توفر دعماً سياسياً وعسكرياً وإعلامياً مهماً لحفتر، مع أنها نفسها كانت قد عبّرت عن اقتناعها بعدم وجود «حل عسكري» في ليبيا، لكن بحسب مراقبين، ارتأت هذه الدول دعم الهجوم رغم تشكيكها في قدرته على حسم المعركة سريعاً، وهو ما لم يحصل، الأمر الذي أوقعها في مأزق دفعها أخيراً إلى فرملة الدعم المفضوح. ويبدو أن مصر أولى الدول التي أبلغته بذلك خلال اجتماع حفتر بالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الأحد الماضي، حين أكد له الأخير أنه لا يستطيع الاستمرار في توفير غطاء جوي له. ومن غير المستبعد أن يكون موقف السيسي بتأثير أميركي، خصوصاً أنه جاء بعد لقاء جمعه بالرئيس دونالد ترامب في واشنطن الأسبوع الماضي، علماً أن الولايات المتحدة ترفض في العلن هجوم طرابلس، وتدعو حفتر إلى التراجع.
إزاء ذلك، تسعى حكومة الوفاق إلى تحريك علاقاتها الخارجية لحثّ المجتمع الدولي على إدانة حفتر، من بوابة أنها الحكومة المعترف بها. وهي تطالب الأوروبيين بتبني موقف واضح ضد الهجوم، الأمر الذي لا تزال تعرقله فرنسا، لكن ذلك سيسبّب على المدى الطويل إحراجاً لباريس، خصوصاً أنها أول من يتحمل تداعيات الهجوم، التي لمّح إليها فائز السراج أمس، بلغة تهديدية تتضمن النقاط التي تخشاها دول الضفة الشمالية للمتوسط، إذ قال في حوار مع صحيفتَي «لاريباليكا» و«كورييرا ديلا سيرا» الإيطاليتَين، إن الحرب تعني الأوروبيين أيضاً، إذ «لا يوجد فقط 800 ألف مهاجر مستعدون للرحيل (تجاه سواحل أوروبا)، بل كذلك ليبيون هاربون من الحرب، ومسلحو داعش الذين عادوا بالفعل إلى النشاط في جنوب البلاد».