طوّر عالم النفس الاجتماعي ويليام ماغواير عام 1961 نظرية التحصين، فلم تعد تتعلّق بالطبّ فحسب، بل توسّعت لتشمل علم النفس الاجتماعي والاتّصال، ما سمح بدراسة أساليب الميديا التقليدية والحديثة بشكل أدقّ. فكما في الطبّ حيث يحصل التلقيح على دفعات تمهيداً للتحصين النهائي، يستخدم الإعلام الأساليب ذاتها عبر «تلقيح» الجماهير ببعض الأفكار وزيادة وتيرتها تدريجاً تمهيداً لعملية «تدجين» الرأي العام وصولاً إلى استغلال نظرية «سلوك القطيع» لدفع الناس إلى التصرّف كما يهوى لأجندات هذا الإعلام ورعاته.هكذا، انتقلت القنوات اللبنانية المهيمنة في الفترة الأخيرة إلى مرحلة «التدجين» و«العيش» مع الأفكار النافرة التي كانت تطرحها بتقطّع (لكن بوقاحة) في السنوات القليلة الماضية، فباتت تجاهر بها وحتى بتبنّيها، هي المفترض أنّها الحريصة على «الموضوعية» و«الحيادية». أوضح تجلّيات ما سبق كان ظهور الصحافية ماريا معلوف التي تجاهر بصهيونيتها على شاشة «المؤسسة اللبنانية للإرسال إنترناشيونال»، والأخيرة بدورها دأبت في السنوات الماضية على فتح الهواء لشتى مسؤولي الإدارة الأميركية والدعوة المقنّعة للتطبيع مع العدو عبر الترويج لـ«اتفاقيات ابراهام» بشكل غير مباشر و«التزام لبنان بمطالب المجتمع الدولي» وغيرها من شعارات لا تحمل في طيّاتها سوى الرضوخ والإذعان لرغبات كيان الاحتلال. هكذا إذاً توجّت قناة LBCI مساء السبت الماضي مسارها التصاعدي ضمن برنامج «المجهول» الذي يقدّمه الإعلامي رودولف هلال باستضافة معلوف عبر الإنترنت وإعطائها المجال لتبرير نفسها وشرح «وجهة نظرها» حول «الانفتاح» وعدم لحاقها بالرأي السائد.
ولئن حرص هلال على «مقارعتها» ببعض الأسئلة، إلّا أنّ ذلك ما يفعله مع كلّ ضيوفه، وطريقته هذه أنتجت ردّات فعل من ضيفته أوصلتها حدّ قول «who cares» (مَن يأبه) رداً على احتمال ملاحقتها قضائيّاً في لبنان، لمخالفتها قوانين مقاطعة «إسرائيل» وتجريم التطبيع مع العدوّ. لكنّ المفارقة أنّ القناة فعلت الأمر نفسه باستضافتها، وتحدّت الجميع بمَن فيهم وزارة الإعلام على طريقة who cares هذه رغم كلّ الاعتراضات والانتقادات التي سبقت الحلقة. لكنّ القناة حرصت على حفظ ماء الوجه عبر استضافة المحامية بشرى الخليل في الاستوديو بعد ظهور معلوف، فكانت تعليقاتها «كافية ووافية». قالت الخليل إنّه من «الواضح أنّها (معلوف) مضطربة وليست مقتنعة بشيء ممّا تقوله، وربّما هناك مردود معنوي أو مادّي ما زالت تستثمر فيه»، وأضافت أنّ المشكلة ليست في قول كلمة «شالوم» وهي كلمة في اللغة العبرية، ولا في تقبّل اليهود وديانتهم وهناك يهود في لبنان وسوريا، بل في ارتداء معلوف الـ«كيباه» على رأسها، ما يؤكّد على انتمائها الصهيوني.
لم ينته الأمر هنا. فمساء الثلثاء، وما إن أُعلن عن تحرير المواطن السعودي مشاري المطيري المقيم في لبنان بعدما كان مخطوفاً، حتّى هبّت القنوات المهيمنة لاستغلال الأمر سياسيّاً وتقديم فروض الطاعة، ولو أنّ أحداً لم يطلب منها ذلك. فباتت هذه القنوات من تلقاء نفسها تردّد الشعارات المتكرّرة وتلصقها على أيّ موضوع حتى بات فقدت أيّ معنى، إن كان لها معنى أساساً. هكذا، راحت «الجديد» وmtv وLBCI تنسج الأطروحات حول «الحفاظ على وجه لبنان العربي» و«الحضن العربي» و«الأشقّاء العرب»، والموضوع لا يتعدّى قضيّة خطف (من دون إنكار خطورتها، لكنّها بعيدة كلّ البعد عن السياسة)! الطريف أنّ هذه الشعارات تختفي لدى هذه القنوات (بشكل أقلّ «الجديد») عندما يتعلّق الأمر بفلسطين أو اللاجئين أو أيّ نوع مقاومة عربية ضدّ الاحتلال الصهيوني أو غيره، ما يُظهر أنّ مخاوفها ليست نابعة من «شريان» عروبي، وأطروحاتها فارغة المضمون. حتى السفير السعودي وليد البخاري في كلامه إلى الإعلام لم يذهب إلى الحديث عن العلاقات بين الدول، فما كان هدف القنوات إذاً؟
على أيّ حال، بات واضحاً أنّ عملية «تلقيح» الجماهير بأفكار «جديدة» ظاهريّاً لكن رجعية باطنيّاً، باتت تؤتي أكلها لدى بعض القنوات، فيما عملية «التدجين» تسير على قدم وساق، ما يوجب على الناس التنبّه قدر المستطاع للرسائل المدسوسة ذات الأهداف المعروفة. فقد يستيقظ المرء ذات يوم ويتساءل بينه وبين نفسه عمّا جعله يرفض التطبيع سابقًا مثلاً، وهنا تكون قد اكتملت عملية «التدجين»، إلّا إذا...