في عام 2003، كانت الدراما السورية قد بدأت خطواتها، لتحتل مكانتها التي باتت معروفةً اليوم في عالم الدراما العربية. كل هذا كان في كفّة، ومسلسل «ذكريات الزمن القادم» في كفّة. جاء المسلسل الذي كتبته الفلسطينية السورية ريم حنّا وأخرجه هيثم حقّي، انفجاراً حقيقياً للإبداع. أدت بطولة العمل آنذاك، كوكبةٌ من النجوم على رأسهم غسان مسعود وجمال سليمان، وسليم صبري وسمر سامي وعبد الهادي صبّاغ، والوجوه الشابة -آنذاك- سلاف فواخرجي وأمل عرفة وعبد المنعم عمايري. تمزج حكاية المسلسل المعقدة بين قصص معروفة لتنتج قصة خاصة تشبه الحالة السورية في ذلك العام خاصةً، والحالة العربية عموماً. مجتمعاتٌ مرّ عليها عام 2000 بالكثير من التغييرات السياسية قبل أي شيء آخر (أحداث 11 سبتمبر، حرب العراق، وأفغانستان...)، وإن بقيت هي ذاتها من الداخل.يعود «مطر أبو ربيع» (جمال سليمان) من منفاه الاختياري. مناضلٌ يساري، حارب العدو الصهيوني إبان اجتياح بيروت عام 1982. اعتبره الجميع يومها شهيداً لاختفائه وغياب أثره أو جثته. خطيبته «خالدة» (ضحى الدبس) الفلسطينية التي تسكن المخيّم مع شقيقها (عبد الهادي صباغ) الذي فقد ذراعه في الاجتياح عينه، ووالدتها (ثناء دبسي) المسكونة بهواجس العودة لفلسطين، لا تزال تعيش على ذكراه. «مطر» الشخصية المذهلة، عائدٌ بأموالٍ كثيرة، وبغضب كبير. باع كل ما له علاقة بالثورة والنضال واستبدلها بأفكار «عصرية» على حد تعبيره. أفكارٌ لا تقيم أي وزنٍ للمبادئ أو الأخلاق وإن غلّفها بردائه المدهش. عاد ليلتقي شلّة الأمس: صافي (غسان مسعود) الرسام الأرستقراطي وشقيقته عبلة (سمر سامي) الكاتبة التلفزيونية الشهيرة؛ المتزوّجة من محامٍ شهير (سليم صبري). سرعان ما يعرف المشاهد بأنَّ عبلة كانت حبيبة مطر السابقة، رغم خطبته لخالدة. يبدأ المسلسل بالتوجه صوب حبكته الخاصة، وإن بشكلٍ هزلي/ معاكس لفكرة «الكونت دي مونت كريستو» رائعة ألكسندر دوما، مع المنتقم العائد، فجعلته شريراً هذه المرّة. كل هذا الزخم ما هو إلا جانبٌ واحدٌ من القصّة. برعت الكاتبة في تقديم أربع أو خمس قصص متوازية تسير مع بعضها: حارةٌ شعبية تضم فتياتٍ جامعيات/ عاملات يسكنّ مع بعضهنّ، سكان الحارة الأصليون من شبانٍ يعملون في مهنٍ شعبية، مجتمع الأصدقاء ذوو الأصول الثقافية/ الأرستقراطية والثورية، وعالم الليل مع الفنانة «أساور» (شكران مرتجى) والكباريه الذي تعمل فيه. هذا المزج الإبداعي جعلنا أمام فسيفساء مدهشة للمجتمع لا السوري فحسب، بل العربي أيضاً.
شخصية «مطر» أفضل تصويرٍ لفكرة «الشيطان» بكل ما تحمله من معنى. إننا أمام ساحر بكل ما للكلمة من معنى. أبدع جمال سليمان في رسم ملامحه. هو يشبه آل باتشينو في دور شيطان المخرج تايلور هاكفور في فيلمه The Devil’s Advocate. شيطانٌ مغرٍ، مخيف وجذاب في آنٍ وفوق كل هذا يريد كل شيء ولا شيء في الوقت نفسه. «مطر» ليس شخصاً طيباً فسد، إنه فاسدٌ باختياره منذ البداية. اختار مثلاً أن يتشبّه بغيفارا ويرتدي «البيريه»، لأنّ الثمانينيات كانت مسكونةً باليسار، والثورة، فكانت تلك «التجارة» الرائجة آنذاك، وكانت مفتاحاً له للوصول إلى قلب «عبلة» وصداقة شقيقها «صافي». يستخدم شعر المتنبي ويصغي لأغنيات عبد الحليم كلما تسنح له الفرصة، يريد إنشاء بنك إسلامي، وينتج ألبوماً للمطربة الشعبية «أساور» (أحد أوائل أدوار شكران مرتجى المهمة) معلناً صراحةً أنّ «الأغنية العشوائية» جذابة ومدهشة رغم سخافتها وضحالتها (المسلسل سبق مرحلة انتشار هذه الأغنيات بسنوات). يستغل «مطر» شرور البشر البسيطة، ليكبّرها ويستخدمهم كحجارة شطرنج. من يشاهد المسلسل يدرك أنه لم يحتج لصرف مالٍ كثير أو لدفع أي شخصٍ للخطيئة. هو فقط لوّح أمام الأشخاص بما يشتهونه (McGuffin) ليصبحوا عبيداً لتلك الشهوة وله من دون أن يدركوا.
فسيفساء مدهشة للمجتمع السوري والعربي


قوة شخصية «مطر» لا تنفي أن الشخصيات الباقية كانت ممتلئة، فشاهدنا «صافي» (غسان مسعود) الرسام الأرستقراطي، الذي يشبه الصورة النمطية لتلك الشخصيات الأرستقراطية التي غادرت مجتمعها، لتدخل «حلم اليسار» وتغيير المجتمع، وإن عبر الفن، لكنها حافظت على سلوكها وطبيعة حياتها وثرائها؛ وإن لازمها «الخجل/ الكسل» وأحياناً «الجبن» الذي ميّز هذه الطبقة الاجتماعية عن سواها. بدورها، كانت عبلة (سمر سامي) الأميرة الطالعة من القصص الأسطورية، الرقيقة الثرية، حلم الجميع الذي نكتشف أنه حتى «يوسف» (عبد الهادي صبّاغ) كان يحبّها. الشخصيات الشابة في المسلسل لعبت دوراً كبيراً، فأتت «كندة» مشابهة لشخصيات الدراما الغربية/ الهوليوودية الشهيرة: مزيجٌ بين «لوليتا» فلاديمير نابوكوف الشهيرة، والمرأة المكتملة الأنوثة التي مثّلتها جين مانسفيلد وصوفيا لورين في لحظةٍ ما. إنها ليست بعد سلاف فواخرجي التي يعرفها الجمهور الآن، لكن ذلك لا يمنعها من إظهار حرفة عاليةً، خصوصاً مع الوقوف أمام معلّم دراما مثل غسان مسعود. أمل عرفة، بدور نادين، قدمت أداءً كبيراً في أحد أول أدوارها كبطلة «ثانية أو ثالثة»، فجسّدت محامية متدربة، قروية «طموحة» تعشق الحلم الذي يقدّمه لها «مطر»؛ وتخالف كل شيء: القوانين، الأعراف، العادات، التقاليد في سبيل ذلك الحلم. برزت أيضاً الشخصيات الجانبية التي أعطتها الكاتبة ذات الزخم والقوة، فشاهدنا التوجهات الإسلامية التي بدأت بالظهور في المجتمع، والصراع المدهش بين عالم المسرح المليء بالمثاليات، والفقير مادياً، مقارنةً بعالم التلفزيون السطحي والغارق في المال.
إخراجياً، بذل هيثم حقّي جهداً كبيراً، خصوصاً لناحية تقديم الشخصيات كما رسمتها حنا بدقة. وموسيقياً، قدّم المؤلف المعروف طاهر مامللي بنيةً موسيقية جميلة. باختصار، نحنُ أمام عملٍ إبداعي بكل ما تحمله الكلمة من معنى.

* «ذكريات الزمن القادم» على «شاهد»