«أمتع أنواع العمل الصحافي» أو «لا شيء يضاهي رونق وجمال الميكروفون الإذاعي». لعلّهما أبرز العبارات التي يرّردها الأكاديمون والعاملون في حقل الإعلام. يحظى الميكروفون والبثّ الحيّ بامتيازات عدّة، تُختصر بكونه مسرحاً وحيداً بلا أدوات أخرى سوى لغة وصفية سليمة وتفعيل أداء رزين للسيطرة على انتباه المستمع وحمايته من التشتّت.عام 1938، سمع الجمهور، للمرة الأولى، عبارة «هنا بيروت» من راديو أورينت الذي استحال في ما بعد الإذاعة اللبنانية.
تبنّت الإذاعة مواهب عدّة، كما وظّفت طاقات موسيقيين وكُتاب سيناريو ودراما الإذاعية وممثلين إذاعيين، ليخرج من رحمها عمالقة ساهموا بإنتاج وحفظ الإرث الثقافي والفني اللبناني، قبل أن تنطلق لاحقاً إذاعات أخرى في بيروت.
تحديات كثيرة تواجه الراديو اليوم في ظلّ الإعلام الرقمي وفورة التكنولوجيا. وأمام هذا الواقع، تبرز أسئلة أساسية: ما هي مقوّمات الاستمرار؟ وإلى أي مدى تنجح الإذاعة في الدمج بين الرقمي والتقليدي؟ وهل واكب لبنان أساساً التطور الحاصل في العالم العربي، لاسيّما لناحية المدوّنات الصوتية (بودكاست)؟
تؤكد مديرة البرامج في الإذاعة اللبنانية، ريتا نجيم، أنّ دور الإذاعة لا يتناقض مع مسار التحوّل الرقمي، إذ أفاد الراديو من الأمر لجهة التوسّع والانتشار. وهو قادر من خلال المنصات الرقمية على الخروج من المحيط الضيّق إلى كل أنحاء العالم. «لكن علينا أن نكون واقعيين»، تقول. وتضيف أنّ التكنولوجيا «تعطينا بقدر ما نطوّع تقنياتنا واستخداماتنا وهذا فعلاً ما يتم السعي إليه في إذاعة لبنان، لكن المعوّقات التي يصطدم بها الجميع تجعل المواكبة محصورة بنطاق معين... خصوصاً أنّ هذه الفترة عصيبة جداً والمشكلات تتلخّص في ضعف التطوّرات التقنية والمادية، لكن لا تلغي فكرة أنّنا إذا طوعنا الإماكانيات وتيسرت الأمور نستطيع الوصول بالتأكيد، فالبرامج والمحتويات مؤهلة لتصل إلى كل مكان لأنها تحاكي الجميع وتحكي عن الجميع وتتمتع بشمولية ليست موجودة في إذاعات أخرى...».
أما عن المدوّنات الصوتية، فتشير نجيم إلى أنّه «نتدرّب على إنتاج محتوى البودكاست... نحن على الطريق». ثم تختم حديثها مؤكّدةً أنّها تسعى مع المدراء والكوادر الإذاعية وفريق العمل للحفاظ على «عراقة إذاعة تحمل إرثاً غنياً، من دون الاكتفاء بما هو موجود، لتأتي الأجيال القادمة وتعمل عليه أيضًاً لأنّ واجباتنا جميعاً أن نبرز هذا الغنى».
من ناحيته، يرى عميد كلية الإعلام والفنون في «جامعة المعارف»، علي الطقش، أنّ أدوات النشر والإنتاج طوّرت أنماط الاستهلاك لأنّها عملية خاضعة للدراسة والرصد عبر البيانات التفصيلية المسؤولة عن تطوير المادة من خلال سلوك المستخدم. فالمتلقي يستسهل الأدوات الحديثة لأنّه المتحكّم بالوقت. ويؤكد الطقش أنّ لا وسيلة تلغي الأخرى، وإنّما هي الشكل الأحدث لها، إلا في لبنان. فغالبية الإعلام التقليدي هو السبب في عدم تطوّر الإعلام الحديث: «وإذا ألقينا نظرة على تجارب الدول العربية التي نجحت في التحوّل الرقمي، سنرى أنّ الصحافيين بمعظمهم من الجنسية اللبنانية، وهذه ما هي إلا دلالة على موضوع واحد، ألا وهو غياب القرار»، فضلاً عن الظروف غير الملائمة. ويشير الطقش إلى أنّه ثمة مخطط تطويري قُدّم من قبل مجموعة فاعلين ورواد في الإعلام الرقمي في حزيران (يونيو) 2021 لوزارة الإعلام حول التحوّل الرقمي ضمن الإعلام الرسمي، لكنه لم يتم التجاوب مع المقترح نهائياً.
أما عن الإعلام الإذاعي، فمن خلال تجربته، يرى الطقش أنّ أكثر المؤسسات تعنتاً بالهُوية الشكلية ومقاومة التغيير هي الإذاعة، لأسباب عدّة منها غياب الرقابة على مستوى الأداء التأثيري، وغياب فكرة الاستثمار الرابح، بالإضافة إلى كلّ ما يرتبط بعملية خلق عدواة مع الأنماط الرقمية الحديثة والتي يتشعب منها تسخيف المنصات الرقمية والاستهزاء بصنّاع المحتوى. ويلفت أيضاً إلى أنّ «العالم الرقمي يثبت قاعدة مهمّة، وهي أنّ المحتوى الجيّد يسود، بينما الإعلام التقليدي يفرض على المشاهد متابعة محتوى رديء...». من منظوره الشخصي، يلخّص لنا الطقش الأزمة الحاصلة في الصحافة اللبنانية ويصفها بالبنيوية، مشدداً على أنّ مسبّبها الأساسي هو القطيعة الحاصلة بين الجامعات والكليات والمؤسسات الإعلامية التي لا تستثمر ولا تطوّر: «الاستبدال هو السنة الحتمية لهذه المؤسسات، والمشهد العام يجب أن يعاد تأسيسه».
في يوم الإذاعة العالمي الذي يصادف اليوم الأحد، وفي كلّ مناسبة مرتبطة بالصحافة، نستذكر لبنان الذي عُرف بمساحة الحرية الممنوحة لصحافييه. لكنّ الحرية وحدها لا تكفي لصناعة الإعلام واستمراريّته، في ظل التحديات الرقمية العالمية. تتلخّص الحاجة اليوم بوجود خبرات، لتبقى المخاوف الحقيقة كامنة في خسارة التقليدي والجديد معاً!