السؤال الذي يُطرح تزامناً مع الإبادة الصهيونية بحقّ غزّة هو: ما أهميّة الفنون البصريّة في فعل المقاومة؟ قد يملك «مركز رادا ومعتّز الصوّاف لدراسات الشرائط المصوّرة العربيّة» في الجامعة الأميركيّة في بيروت، الجواب على ذلك عبر معرضين يفتتحهما الليلة بالتعاون مع مبادرة «حُسن الجوار» في قاعة «نهى الراضي» القائمة داخل «مسرح المدينة». يضمّ الأول أعمال فنانين من فلسطين والدول العربيّة تحت عنوان «فلسطين: الفنّ التاسع يوثّق ويتحدّى»، إلى جانب معرض ثنائي بعنوان «لا تتوقّفوا عن الرسم» يجمع اليوميّات المرئيّة المتضامنة مع غزّة التي بدأها الفنّانان اللبنانيّان اللذان تجمعهما صداقة قديمة: مازن كرباج وجنى طرابلسي. تزامناً مع افتتاح المعرضين، يطلق المركز الليلة كتاباً لمجموعة من القصص المصوّرة والرسومات لفنانين من العالم العربي تحت عنوان «فلسطين بدون تخدير».
ناجي المير


مازن كرباج. حبر على ورق. 2023

يقدّم المعرض الجماعي «فلسطين: الفنّ التاسع يوثّق ويتحدّى»، رسومات مصوّرة لـ 42 فنّانة وفنّاناً، تحتفي بالتراث الفلسطيني وتتناول التاريخ الحافل بالمآسي، ليوثّق واقع الشعب الذي يعيش منذ ستّة وسبعين عاماً تحت الاحتلال، وصولاً إلى المحرقة التي ترتكب اليوم بحقّه. أسماء تحتلّ قائمة الفنّانين المشاركين في المعرض، تعود إلى الفنّانين الذين أحدثوا تفاعلاً كبيراً على مواقع التواصل الاجتماعي منذ بداية الإبادة حتّى الآن، وعبّروا عبر رسوماتهم عن تضامنهم، وواكبوا عبرها الأحداث التي تجري ووثّقوها على طريقتهم الخاصّة، فأعاد الجمهور المتضامن نشرها لتتخطّى حدود العالم العربي وتصل إلى مجتمعات العالم الغربي الغافل عن المجزرة الدمويّة والمتشرّب للمعلومات والحقائق المفبركة. نذكر منهم الفنّان البصري اللبناني ناجي المير، ورسّامة القصص المصوّرة اللبنانيّة مايا فداوي، والفنان الفلسطيني فؤاد اليمني الذي عرضت أعماله أخيراً في معرض «فلسطين حرّة» في مدينة نابولي الإيطاليّة، والمصممة الغرافيكيّة المصريّة أميرة الطناني والفنان الأردني الفلسطيني حسّان مناصرة. تعكس أعمالهم التي تعرض الليلة على شكل تجهيز رقمي، الطريقة التي بتنا نرى فيها الموجة العارمة من المشاهد واللقطات الإعلاميّة الواردة من غزّة على شاشات هواتفنا الذكيّة. تُعرض الرسومات في بثّ حيّ ومتواصل على الشاشة الرقميّة التي تسمح بتحديث الأعمال الفنيّة بشكل يومي مع استمرار العنف وواقع الإبادة الجماعيّة. يتطرق «مركز رادا ومعتّز الصوّاف» في بيانه الصحافي إلى هذه الشاشة الرقميّة والرسومات التي تُعرض عليها متحدّثاً عن آفاقها: «نسعى إلى أن يسافر هذا التجهيز الرقمي بعيداً وعلى نطاق واسع من أجل نشر أكبر عدد ممكن من الوعي حول هذه المأساة الإنسانيّة». يهدف هذا المعرض الجماعي إلى مواجهة المشاهد بواقع ما يحدث في غزّة، وإلى تأكيد مفهوم النضال الفلسطيني المستمر، وإعلاء صرخة مدويّة لوقف الإبادة الجماعيّة بحق أهالي غزّة، وإنهاء الاحتلال وتحرير الشعب الفلسطيني.

جنى طرابلسي. «نحمل أطفالنا كل ليلة». حبر على ورق. 2023

يشارك الفنّان اللبناني المقيم في فرنسا ناجي المير بتسعة ملصقات، أنجز بعضها قبل أحداث السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023 بوقت طويل، وبعضها الآخر أنجزها بالتزامن مع الإبادة الجارية. تتضمّن الملصقات شعارات تحثّ على المقاطعة أو جملاً ورسوماً تذكّر المتلقّي وتعيد لفت انتباهه إلى ما يحدث لأهالي غزّة مثل «العالم الحرّ يشاهد الإبادة الجماعيّة في صمت». في أحد ملصقاته المشاركة، يوجّه المير تحيّة إلى الصحافيّة الشهيدة شيرين أبو عاقلة (وعداً شيرين سنسترد كلّ فلسطين). يتحدّث الفنّان البصري عن هذا الملصق بالتحديد قائلاً: «أنا على تواصل دائم مع فنّانين وفنّانات يعيشون في فلسطين. جاء استشهاد شيرين في وقتٍ كنت ألتمس فيه النصر الفلسطيني القريب عبر تواصلي مع أصدقائي الفنّانين. أنجزت هذا الملصق اليوم الذي تلا استشهادها. شيرين صحافيّة استُشهدت من أجل نقل الحقيقة، فأرعبتني فكرة تكبيل الحقيقة». يذكر الفنّان غايته الأساسيّة من رسوماته التضامنيّة، قائلاً: «أتناول فلسطين في أعمالي قبل أحداث السابع من أكتوبر، أحاول دوماً ألّا أنجرّ مع العجلة الاقتصاديّة، وأن أنقل الحقيقة على طريقتي لكيلا يغفل أحد عن سماع صوت الذين نُكبت أرضهم». وعن نشره لملصقات متضامنة مع فلسطين على مواقع التواصل الاجتماعي، وهو الذي يقطن في أوروبا التي تمارس إرهابها على كل صوت ينقل السردية الفلسطينية، يقول: «بعض المتابعين لحساباتي على مواقع التواصل الاجتماعي تخلّوا عن متابعتهم بسبب نشري للملصقات، وتفاجأت من بعض المتضامنين مع الشعب الأوكراني، الذين لم تلمسهم أحداث الإبادة في غزّة ولم يبدوا اهتمامهم بها. لكن من ناحية أخرى، تلقّيت تجاوباً هائلاً من أناسٍ كانوا على غير دراية بالوجه الحقيقي للقضيّة الفلسطينيّة، لمستهم الملصقات وأعادوا نشرها على حساباتهم الخاصّة».
هكذا يقاوم ناجي المير الاحتلال، مع واحد وأربعين فنّاناً مشاركاً في المعرض. هكذا يتحدّون جميعاً بالطريقة التي يجيدونها. لا تستطيع الرسومات والملصقات أن ترمي صواريخ على العدو، لكنّها توثّق وتقف في وجه القمع الثقافي والتعتيم الإعلامي الذي يهاب وصول الحقيقة إلى العالم.

فؤاد اليمني


محمد سباعنة


يوميّات مرئيّة عن غزّة
يقوم المعرض الثنائي «لا تتوقّفوا عن الرسم» على خط زمني لأعمال الفنانَين اللبنانيَّين مازن كرباج المقيم في برلين وجنى طرابلسي المقيمة في بيروت. ردّاً على الإبادة المستمرة في غزّة، بدأ الفنانان بالرسم والنشر على صفحتيهما على الإنستغرام. تكشف رسوماتهما الجريئة الظلم الإسرائيلي تجاه الفلسطينيين ويستعمل الفنانان الرسم كآليّة للمواجهة، كونه الوسيلة الوحيدة المتبقيّة لهما لنشر الحقيقة والمقاومة. تنتشر أعمال الفنانين على نطاق واسع على مواقع التواصل الاجتماعي، ما يسمح لآلاف الأشخاص في مختلف أنحاء العالم بالتعبير عن تضامنهم والتماهي مع مشاعر الفنانين ومواقفهما. رغم تواجد كرباج وطرابلس في مدينتين مختلفتين، إلّا أنّ أعمالهما تمثّل حواراً مخفيّاً بين شخصين عاشا الحروب في لبنان، واليوم يشهدان عبر شاشتَي هاتفيهما على العنف اليومي الذي لا يُطاق تجاه الفلسطينيين.
تحتل النصوص أعمال الفنانين، وتترافق مع الرسومات المجرّدة من تفاصيلها، جميعها تقريباً بذات التنسيق وباللونين الأسود والأبيض. ملصقات مصنوعة من الرموز، تلصق على الجدران الإلكترونيّة، يخاطبان عبرها الاستعمار الإسرائيلي والمتواطئين معه. لا يستثنيان أحداً، سواء أولئك الذين يدعمون الكيان الصهيوني علناً أو الذين يغمضون أعينهم عن الفظائع... «من غزّة إلى العالم: هل تروننا حقّاً».
يعود ريع الحدث إلى «دعم صندوق غسّان أبو ستّة» الذي تأسّس حديثاً من أجل تقديم الدعم اللازم لأطفال غزّة


هكذا تمثّل الرسوم المعروضة الليلة، طريقة الفنانين في المطالبة بالسلام والعدالة لفلسطين، ومواجهة عجزهما في وجه اللاإنسانيّة التي فضحتها الإبادة الجماعيّة. يُذكر أنّ هذا المعرض الثنائي، تنظمه منى الحلّاق وميساء جلّاد بدعم من «معهد الازدهار العالمي» (IGP) في «كليّة لندن الجامعيّة» (UCL)، وقد سبق أن عرض في «غاليري P12» في لندن، كجزء من مؤتمر «أسبوع لبنان» الذي نظّمه المعهد في 19 آذار (مارس) بعنوان «سياسة تحقيقات إنهاء الاستعمار وأخلاقيّات التضامن».

فلسطين بدون تخدير
أخيراً كتاب «فلسطين بدون تخدير» الذي يصدر الليلة تزامناً مع افتتاح المعرضين، مجموعة من القصص المصوّرة والرسوم لفنانين من العالم العربي اجتمعوا ليشهدوا على الفظائع التي يرتكبها الاحتلال منذ نشوئه ضدّ الفلسطينيين. أربعة عشر فناناً وفنّانة، من بينهم الطبيب غسّان أبو ستّة، يرفعون الصوت عالياً في وجه الإبادة الجماعيّة التي تتعرّض لها غزّة اليوم. هذا الكتاب هو فعل تضامن ونداء لإعادة التركيز على الصوت الفلسطيني وإعلائه ليسمعه العالم المتواطئ مع الجلّاد. يبرهن «مركز رادا ومعتّز الصوّاف لدراسات الشرائط المصوّرة العربيّة» في الجامعة الأميركيّة في بيروت، عن أهميّة وضرورة الفنون البصريّة في ظل ما يحدث من مجازر. الليلة، في «مسرح المدينة»، الفن التاسع لا يكتفي بالتحدّي والتوثيق، فكامل ريع بيع ملصقات المعرضين والكتاب، سيعود إلى «دعم صندوق غسّان أبو ستّة» الذي تأسّس حديثاً من أجل تقديم الدعم اللازم لأطفال غزّة الجرحى.

■ كتاب «فلسطين بدون تخدير»: الليلة ــ السابعة مساءً.
■ معرض «الفن التاسع: يوثّق ويتحدّى»: بدءاً من اليوم حتّى 12 حزيران (يونيو).
■ معرض «لا تتوقّفوا عن الرسم: يوميّات مرئيّة للتضامن مع غزّة»: حتّى 15 آب (أغسطس) ـــ «مسرح المدينة» (الحمرا ــ بيروت)