تونس | موجة حزن عميقة خيّمت على الوسط الثقافي والفني مساء الأحد مع رحيل الفنان والمغني البدوي بلقاسم بوقنة (1962 ــــ 2024) في مدينة دوز بعد معاناة طويلة مع مرض القصور الكلوي الذي داهمه قبل ثلاث سنوات، ليتوقّف صوته الذي لطالما عبّر عن وجدان البسطاء في فيافي الصحراء والقرى النائية طوال ثلاثين عاماً من انطلاق تجربته الفنية الاستثنائية. برز بلقاسم بوقنّة الذي يتمتّع بشهرة واسعة في ليبيا والجزائر ومنطقة العريش في مصر، في عام 1985 عندما أصدر أولى أسطواناته على حسابه الخاص بعنوان «ياسمح الصفة» (جميلة الصفات) وهي في الأصل قصيدة لشاعر بدوي كان ضمن الفيلق الفرنسي في الصحراء التونسية، وكانت أجيال تتداولها في مدينة دوز بوّابة الصحراء التونسية ومحيطها. بعدها، توالت أسطواناته التي قدّم فيها نمطاً جديداً من الغناء استمدّه من بيئته الصحراوية ليصبح نموذجاً لا يشبه أحداً. ورغم أنّ عدداً من المطربين حاولوا مجاراته وتقليده، إلا أنّ أحداً لم يستطع مجاراة بصمته الخاصة، وخصوصاً في بحثه في التراث الشعري الشعبي (النبطي) وألحانه وطريقة عيشه.
رفض بوقنّة مغادرة قريته القلعة في ضواحي مدينة قبلي في أقصى الجنوب التونسي رغم أضواء الشهرة، كما كان يرفض عروض الظهور التلفزيوني والغناء في «مهرجان قرطاج»، متمسّكاً بمهنته الأصلية (معلم مستوى أوّل)، رافضاً صفة الفنان، ووفياً لحياته اليومية البسيطة بكل تفاصيلها حتّى تحوّل إلى نموذج في الزّهد في زمن أنصاف الموهوبين، بل عديمي الموهبة الذين صنعت منهم شركات الإنتاج وفضائيات الـBuzz نجوماً.
وطوال هذا المسيرة، أنتج عشر أسطوانات محورها الأساسي الحب والشوق والحنين وتبدّل الزمن وخيانة الصحّة والأصدقاء، وفرض نفسه ظاهرةً استثنائية يقطع المنتجون ومديرو المهرجانات مئات الكيلومترات من أجل لقائه وإقناعه بمشاريع كان يرفضها عادة، منحازاً إلى بساطته، فقد كان يرى نفسه هاوياً يغنّي عندما يريد لمن يريد.
لقد أحيا بلقاسم بوقنة الشعر الشعبي بصفته مكوّناً أساسياً للذاكرة الجماعية لمنطقة الصحراء ومخيالها على وجه الخصوص. فقد كان صوت المنسيّين في المهاجر الذين يتداولون أغانيه على شبكة اليوتيوب، وبوفاته توقّف صوت الصحراء بكل ما فيه من حزن وشجن وكبرياء!
وداعاً أيّها المغنّي البدوي المتوحّد بنفسه بعيداً من زيف الشهرة وأوهامها!