لطالما كان الشرق الأوسط، والعالم العربي عموماً، بالنسبة للغرب، قصة جشع. لم يخرج العرب من الهيمنة العثمانية إلا ليصبحوا مستعمرات بريطانية وفرنسية وإسبانية وإيطالية (حملة بونابرت إلى مصر عام 1798، الوجود البريطاني في مصر منذ عام 1882، استعمار الجزائر عام 1830، الحماية في تونس عام 1881، استعمار ليبيا من قبل إيطاليا عام 1911، الحماية الفرنسية والإسبانية في المغرب عام 1912، الانتداب الفرنسي على لبنان وسوريا عام 1920، الانتداب البريطاني على فلسطين عام 1920، الانتداب البريطاني في بلاد ما بين النهرين، العراق الحديث عام 1920). توالت إذن، سلسلة من الحمايات والاستعمارات من قبل القوى الغربية في هذا الجزء من العالم، الذي هو العالم العربي، وهذا معروف جيداً.ولكن من يتذكر اتفاقيات سايكس بيكو الموقعة سراً في 16 مايو 1916؟ لقد نصت هذه الاتفاقيات على تقسيم الشرق الأوسط في نهاية الحرب العالمية الأولى إلى عدة مناطق لصالح هذه القوى. وتأتي هذه الاتفاقيات ضمن سياق الهيمنة الاستعمارية التي تمارس من خلالها دولتان (فرنسا وبريطانيا) سيطرة حاسمة ودائمة على شعوب الشرق الأوسط وتقسيم هذه المنطقة إلى أربع مناطق. وفي نهاية الحرب العالمية الأولى، وبدلاً من تدويل فلسطين، كما كان موعوداً به، تم التنازل عنها لبريطانيا.
بما أن الاتفاقية كانت في اطار الدبلوماسية السرية، لم يكن لسايكس بيكو أي قيمة قانونية. ولكي تحظى بشرعية، أدخلتها بريطانيا وفرنسا في إطار عصبة الأمم بحجّة أنّ شعوب الشرق الأوسط غير قادرة على قيادة نفسها، مع الوعد بقيادتها نحو الاستقلال. لكن التاريخ سيذكر أن بريطانيا وفرنسا سحقتا بقسوة دموية الثورات التي اندلعت بشكل خاص في العراق وفلسطين وسوريا.
حصل العراق على استقلاله عام 1932، وسوريا عام 1946، ومصر عام 1953. وبقيت فلسطين تحت الانتداب البريطاني الذي تنازل عنها بحجة إصلاح جرائم النازية.
والباقي معروف: تم استبدال عصبة الأمم بمنظمة الأمم المتحدة التي أظهرت ضعفها كأختها السابقة، فقد تم ضرب العراق دون موافقة منظمة الأمم المتحدة وما زالت كلمة كوفي عنان (إنه يوم حزين للأمم المتحدة والعالم) تعبّر عن عجز المنظمة التي أصبحت مجرد شبح قائم.
كانت يريطانيا تعلم أن العراق لا يملك أسلحة دمار شامل وعرف العالم أنه لا توجد أية أسلحة من هذا النوع وأنّ لا صلة بين الهجمات على البرجين (Twin Towers) والحرب التي شنت على العراق. ولم يحاكم توني بلير (رئيس وزراء المملكة المتحدة السابق)، ولا جورج دبليو بوش (الذي أكمل مسيرة أبيه في ضرب العراق) ولا ساركوزي الذي تسبب في انهيار ليبيا. وشهدت سوريا والعراق الكارثة التي سببها البغدادي، الذي حظي بدور السكرتير والوسيط في السجون الأميركية، والذي استولى على الترسانة العسكرية التي تركها الأميركيون في العراق.
يبدو أن الرقصة في مسرح القسوة (La cruauté) لم ينته بعد.
اليوم, أمام إبادة الفلسطينيين، تواجه منظمة الأمم المتحدة صعوبة في فرض وقف إطلاق النار على إسرائيل.وتنكسر عبارة «لن يحصل هذا أبداً مرة أخرى!» على صخرة الهيمنة الأميركية وحليفتها إسرائيل، والمساعدات غير المشروطة من ألمانيا وإنكلترا، وبالطبع صمت دول الخليج ومصر.
أمام القانون الدولي المنتهك، يدعم دعاة الديمقراطية حكومة نتنياهو التي تقول وتصرخ: «التوراة يقول بأنّ هناك وقتاً من أجل السلام ووقتاً من أجل الحرب وقد حانت ساعة الحرب». « يبدأ النصر من خلال التمييز بين الخير والشر، بين الحقيقة والزيف».
يستشهد نتنياهو بالتوراة لتبرير العدوان الإسرائيلي على الفلسطينيين في قطاع غزة، ويرتكز على الأمر المذكور في التوراة بعدم نسيان ما فعله قوم Amalécites بالإسرائيليين، لتبرير وحشية إسرائيل في الحصار الكامل على المقاطعة الفلسطينية. ويقول نتنياهو للعالم: «بقوى مشتركة، وبإيمان عميق في عدالة قضيتنا وفي أبدية إسرائيل، سنحقق نبوءة إشعياء» (60:18).
هذه ليست حرباً. «الحرب» تفترض وجود جيشين. ما نشهده ما هو الا تطهير عرقي. جيش مدرب قوي ومجهز ضد المدنيين وقد قُتل في غزة حتى الآن أكثر من 30,878 فلسطينياً، وأصيب أكثر من 72,402 آخرين.
على شبكات التواصل الاجتماعي، يعلو الصوت الخائف لهند الصغيرة التي تصرخ وتطلب النجدة في السيارة بعد أن قتل خمسة أشخاص من عائلتها وظلت ترجو أمام الجثث الملطخة بالدماء أمامها. ظل صوتها يطالب بالنجدة الى أن أسكتته الدبابة الاسرائيلية. راحت هي وعائلتها وكانوا ضحايا الجيش الإسرائيلي الذي كان يحظى بوجبات الطعام والشرب من طرف مصر والسعودية بينما كان الجوع والمياه الملوثة يمزقان أحشاء الفلسطينيين.
على الهواء مباشرة، نرى سكان غزة يحاولون انتشال الجثث الملقاة تحت الأنقاض. وصورة يد صغيرة تسحق وتدمي العين من شدة قسوتها.
قال محمود درويش: «لا مفرُّ ! سقطت ذراعك فالتقطها واضرِبْ عدوك..لا مفر». اليد الآن تحت الركام. قالت فدوى طوقان: «يميناً، بعد هذا اليوم لن أبكي!». لقد كان ذلك منذ وقت طويل. اليوم، هناك شعب محاصر، يتضوّر جوعاً، يذل، تغتاله اتفاقيات سايكس بيكو القرن الحادي والعشرين، يباد شعب بينما تشهد ممالك الخليج على هذه الإبادة.
أمام شراسة النظام العالمي الجديد الذي يتجاهل حق الإنسان في الحياة، لن نكون، كما قال مظفر النواب، يهود التاريخ التائهين في الصحراء بلا مأوى. لا! سنصبح جميعاً فلسطينيين.
--
* محللة نفسية وأستاذة جامعية وكاتبة