في الذكرى السنوية الخامسة لرحيله، صدرت رسائل المفكر القومي هنري حاماتي عن «دار الفرات» في مجلّدين (900 صفحة): رسالته الأولى لإنعام رعد عام 1969 ورسالته الأخيرة لنواف الموسوي عام 2005. أهمية هذه الرسائل أنها تلقي ضوءاً على تطور الفكر السياسي، ولا سيّما الفكر القومي، الذي عرفته بلادنا وعالمنا العربي في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وتشهد لظاهرة الكفاح المسلّح الفلسطيني التي هزّت الوجدان العام وأيقظت النفوس المستكينة من سباتها. مئة وثلاث وعشرون رسالة موجهة إلى خمسين شخصية سورية (بالمعنى القومي للعبارة)، بينهم رئيس دولة كالأسد الأب والابن، ورئيس حزب سياسي، ومثقف وصحافي وأكاديمي، وطلاب جامعات. بعضهم خصّه برسالة وبعضهم بأكثر، ولا سيّما رؤساء الحزب القومي: عصام المحايري، مسعد حجل وأسعد حردان... سنكتفي، هنا، بعرض بعض هذه الرسائل، على أن نرجئ المتبقي منها إلى مناسبة أخرى. في رسالته إلى إنعام رعد، أحد قياديي الحزب القومي المعروفين (13 صفحة)، يناقشه فيها أجوبته على الأسئلة التي وجهتها إليه جريدة «العمل» الكتائبية التي تمحورت حول موضوعين: يتناول الأول المسألة الفلسطينية والثاني مسألة «الحرية والديموقراطية» في لبنان. خرج حاماتي من قراءته لها بجملة ملاحظات منها، على سبيل المثال، ما تعلق بالعمل الفدائي وما إذا كان يشكل خطراً على الأنظمة السياسية القائمة، ويسأله هنا: لماذا جعلت المسألة مسألة «قياس» وربطت الأنظمة السياسية بمقدار تجاوبها مع حق الشعب؟ ألم نحكم بعد، نحن القوميين، على الأنظمة السياسية؟ ألسنا نعرف نحن أكثر من غيرنا مقدار تجاوب هذه الأنظمة مع حق الشعب في استرداد الأرض... ومقدار تجاوبها مع الإرادات الأجنبية في تجميد الشعب ومنعه من التوجه قومياً (ص9). أما في ما خصّ مسألة الحريات والديموقراطية والعقائد، فإنّ ما ينصر العقائد أو يخذلها ليس إقبال الشعب عليها أو رفضه لها كما قلت بل «صحتها هي وشدّة إيماننا بها وقتالنا من أجل انتصارها» (ص13).
في رسالته إلى سليمان فرنجية بعد انتخابه رئيساً للجمهورية (1970)، يشبّه وصوله إلى الرئاسة بوصول خروتشوف إلى رئاسة الدولة السوفياتية، لجهة أوجه الشبه بينهما وأهمها: الوضوح والحزم والبساطة في الصفات الشخصية، وصعودهما إلى رئاسة الدولة من صميم النظام القائم، بصرف النظر عن فوارق النظامين اللبناني والسوفياتي. هذه المقارنة بين الرجلين أراد منها القول بأنّ فرنجية أقدر من سواه على إحداث التغيير في الحياة السياسية والدولة.
في العشرين من تموز (يوليو) 1974، وجّه هنري حاماتي، وكان يومها يشغل مسؤولية عميد الإذاعة في الحزب القومي، رسالة إلى العقيد معمر القذافي مرفقة بمقترح سياسي بمناسبة الأحداث الجارية في قبرص، في أثر الانقلاب العسكري الذي أطاح بمكاريوس واحتلال تركيا القسم الشمالي من الجزيرة. انطلق حاماتي في مقترحه من مبدأ أنّ للسوريين والعرب حقوقاً طبيعية وتاريخية ومصالح استراتيجية في الجزيرة، بوصفها «قطعة من أرضنا في البحر» كما يقول أنطون سعاده. هذا المبدأ يُسقط كل اعتبار حقوقي للأكثرية اليونانية- التركية، ويعتبر انحسار السوريين والعرب عن الجزيرة حصيلة «الجزر» القومي الذي منيَ به تاريخ أمتنا أثناء سقوطها تحت ضغط الفتوحات الاستعمارية. أما المقترح الذي يرفعه إلى القذافي فيهدف إلى تخطيط مدّ قومي إلى الجزيرة يُعيد ربطها بالحياة السورية والعربية، اقتصادياً وسكانياً وثقافياً وإعلامياً وسياسياً، عبر مراحل متعدّدة، وفقاً لخطة دقيقة شرحها بالتفصيل في مقترحه.
إلى نبيل العلم المتهم بالتخطيط لاغتيال بشير الجميل (1982)، يوجّه حاماتي خمس رسائل بين عامَي 1987- 1988 يعرض فيها رأيه في أزمة الحزب القومي، ولا سيّما حالة الانشقاق الكبير الذي عصف بالحزب عام 1987، لافتاً نظره إلى أنهما قادران، معاً، على اجتراح الحلول الناجعة، على هذا الصعيد. يبدأ رسالته الأولى مخاطباً نبيل بـ «الحبيب»وينهيها بعبارة: «قبلاتي لسهام (زوجة نبيل) والعروسين (ولديهما)» في إشارة إلى العلاقة العميقة بينهما. ولا ينسى، كما في كل رسائله إليه، أن يذكر الأخطاء الكبيرة التي يرتكبها بعض جهابذة الحزب في بياناتهم ويعطي مثالاً عبارة وردت في بيان صادر عن مجموع رؤساء الحزب في عام 1987 تفيد بـ «تحويل المواطن الفرد إلى إنسان مجتمع»، ويسأل نبيل، متهكّماً على الرؤساء: «أي حمار يفكر بتحويل المواطن الفرد إلى إنسان مجتمع؟ إن الإنسان الحقيقي هو المجتمع لا الفرد». في رسالته الخامسة والأخيرة حول تعديل دستور الحزب القومي وجوازه، ومركزية النظام القومي، وفصل السلطات، والتشدد في منح رتبة الأمانة، يستعيد حاماتي بعضاً مما كتبه من شروح في مناسبات متفرقة، مختتماً رسالته إلى نبيل بملاحظة شديدة الدلالة حول «حمام الدم» الذي ضرب الحزب صيف 1987 قائلاً له: «ألا يمكن عمل شيء لوقف الدم؟ نحن، أنت وأنا، متصلبان، ونحن أدسم المرشحين للمحرقة فاحذر! أنا «مشكلة» عقدية، وأنت «مشكلة» سياسية، ولن أكفّ عن تذكيرك، وتنبيهك... نحن عقبتان لن يكون للشراميط راحة قبل زوالهما».
في رسالته إلى «أبو إياد» عضو اللجنة المركزية لحركة «فتح» يناقش كلامه إلى مجلة «اليوم السابع» (العدد الصادر في 5 آب/ أغسطس 1985)، مرتّباً مناقشته في شؤون خمسة نختصرها، هنا في عنوانين كبيرين هما:
1- الحركة السورية القومية الاجتماعية وظاهرة الكفاح المسلّح/ فتح.
2- مصير الكفاح المسلّح والرهانات الراهنة.
عندما انطلق الكفاح المسلح انطلاقته الواسعة بعد حرب حزيران 1967 وأكّد نفسه قدرة كبيرة، أخذ الوجدان العام في شعبنا يتطلع إليه على أنه «البديل» الوحيد للمواجهة. وعليه، لا يجوز لمن يتصدى لتلك الحقبة- وهنا يشير حاماتي إلى «أبو جهاد»- أن ينسى حقائق عديدة شكلت تاريخياً عوامل مقرّرة بالنسبة إلى القوى التي كانت في الساحة، فقد أخذت الشعوب العربية «بأسرها» ترى في خيار القتال الآخذ بالتألق مفجراً ثورياً حتى بات مصدر قلق لكثير من الأنظمة.
في عام 1968، يُضيف حاماتي، كان مجتمعنا، إذن، يحضن معطيين نقيضين: المعطى الأول هو الهزيمة، والمعطى الثاني هو الكفاح المسلّح «خياراً شعبياً وحيداً» و«ظاهرة عامة» لا خاصة بالفلسطينيين «وحدهم». ويذكر، هنا، كيف أن أنماط التفكير السياسية التي سادت العالم العربي قبل عام 1967 سقطت وتداعت وتخلى أصحابها عنها وهي: نمط التفكير المجتمعي النفطي العربي بزعامة السعودية، ونمط تفكير حزب البعث الحاكم في دمشق وبغداد والذي أفرز تنظيمين مسلحين هما الصاعقة وجبهة التحرير العربية، ونمط تفكير الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي كان طوال المدة الماضية 1956ـ1967 محظوراً في الأردن ومكافحاً في الشام وملاحقاً في لبنان. حتى الآن، ليس في بلادنا، بالنسبة إلى حاماتي، سوى هذين الحزبين. فهما آخر تنظيمين شعبيين جديرين بالاعتبار، يستحقان الدراسة والتقويم والنقد والمناقشة، من الباقين من الأحزاب والتنظيمات التي ولدت تباعاً واندثرت في بلادنا منذ أوائل العشرينيات، ابتداءً من عصبة العمل القومي، بل ابتداء من أواخر القرن التاسع عشر مع جماعة «الجوهر الفرد» مع الأفغاني ومروراً بالأحزاب: الكتلة الوطنية والشعب والدستوري والتعاوني الاشتراكي والتحرير العربي والديموقراطي الاجتماعي والتنظيمات الناصرية والطائفية، على أشكالها.
هذه هي المعالم الرئيسية للحالة السياسية في سورية والعالم العربي في عام 1968 ومعها ستتعامل ظاهرة الكفاح المسلّح التي جاءت تجسّد الاستعداد الشعبي العام للقتال، يختم حاماتي رسالته إلى أبي إياد.
في سبعينيات القرن الماضي، تجتاح تقليعة فكرية الأوساط الثقافية الفرنسية- والسوربون خصوصاً- دُعيت المنهج السميوتي. ملخص هذا المنهج أن ينحو نظر دارس التراث بالنصوص، موضوع الدرس، فلا يتعدّاها إلى مقارنة ولا يحاول ربطها بزمانها ومكانها ولا تحليلها بردّها إلى عناصرها الأولى في ثقافة سابقة أنتجتها بل الاكتفاء بالنظر إليها بوصفها معطى قائماً بذاته. في المدة نفسها، كانت عمليات نبش التراث السوري قد بلغت ذروتها في حفريات «إبلا» في شمال غربي سورية، حيث أحدثت ضجة عالمية كبيرة حول علاقة مكتوبات اليهود بهذه الثروة الأدبية المكتوبة بالأحرف المسمارية على الفخار. المنهج السميوتي هو طريق الأعمى، وهو خير منهج لحماية النصوص التوراتية من مكتشفات تراثنا ومن الدراسات التي تستثيرها هذه المكتشفات، يؤكد حاماتي في رسالته إلى يوسف الخال (شاعر وصاحب مجلة «شعر») عام 1986، لمناسبة صدور الطبعة الثانية لـ «مقدمة» شارل مالك. هذه الإطلالة على المنهج السميوتي مردها إلى أن حاماتي عند قراءته «المقدمة»، ازداد إعجاباً بمالك «ذي الدماغ الكداد، العصامي، الصبور، واحترمت خصوصاً احترامه التراث العالمي الحيّ، ومآتي الحضارة العالمية في مناحي النشاط البشري المختلفة، وخصوصاً الطبيعيات والرياضيات». ولكن «إعجاب» حاماتي بمالك لا يلبث أن يدهشه في موقفين نقيضين: الأول تجاهله التام لكون اليهود ما أسهموا في صنع التراث العالمي الحيّ، فهم كانوا خارجه، فما اكتشفوا ولا اخترعوا ولا ابتكروا...، والثاني تجاهله التام لكون البؤر الحضارية الأولى للثقافة الإنسانية بشهادة رجال عظام مشهود لهم في العالم هي أور وبابل ونينوى وأوغاريت وإبلا وأورشليم (قبل وصول إبراهيم إليها) وأنطاكية وصور وصيدا وجبيل. فلماذا هذا التجنّي؟ وكيف يوفق مالك بين موقفه من التراث العالمي الحيّ، وهو موقف يستحق كل ثناء وتجاهله جاهلية اليهود وحضارة السوريين؟ يختم حاماتي رسالته إلى يوسف الخال.
في رسالته إلى الإعلامية فوزية فريحات (1989)، يتابع حاماتي شرح نظريته في وحدة الدين الإلهي الذي نشأ، برأيه، قطعاً في سورية ووصل ذروة رقيّه، في سورية الغربية، لدى الكنعانيين، في عبادة إيل، فكانت له معابده وطقوسه وكهانه في مدة سبقت الزمن المعيّن- في المكتوبات المحدثة- لوجود إبراهيم، هذه الشخصية التي لم يكن لها ذكر في التاريخ السوري لأنها لم تكن حدثاً ذا بال، أو لم تكن حدثاً على الإطلاق. وجاءت هذه الرسالة المعمّقة تتمة أو تكملة للحوار الذي جرى، قبل مدة، في منزل حاماتي في باريس وضمّ، أيضاً، كل من الشاعر الراحل فايز مقدسي وكاتب هذه السطور.
في رسالة إلى نجله الراحل غيث الذي كان منكباً بدوره على موضوع اللغة، يوصيه بأن يباشر الموضوع بطريقة أسلوبية فكثرة القراءة لا توصل إلى نتائج جدّية. ويلفت انتباهه إلى أن الدراسات القديمة عديمة الفائدة لأن المكتشفات الحديثة تدعو إلى إعادة النظر في كل النظريات، وأن اللغة نتاج تاريخ حضاري، فلا بدّ من البحث عن أصول اللغة، أي لغة، في الوسط الحضاري الذي أنتجها. وبهذا المنطق، يضيف حاماتي الأب، اللغات الحديثة هي حواصل لغات قديمة أنتجتها أوساط ثقافية. وعليه، فإن اللغة العربية ذات أصول، ولهذا، وبدءاً من هذا الواقع، لم تنشأ في الجزيرة العربية التي لم تتلاق فيها لغات قديمة، التي ليست هي وسطاً ثقافياً قادراً على احتضان عملية تفاعل لغات، وإنتاج لغة منها. فلقد بقي المجتمع العربي من دون تاريخ، حتى بعد محمد، ولا زال. فالنفط مفازة وغنيمة فاز بهما آل سعود. والإسلام هو دين سورية قطعاً، ولن يصير النفط قوة مادية مولّدة: ليس في المدى المنظور، على الأقل.
الرسالة الأخيرة موقعة بتاريخ 20/10/2005 وموجهة إلى نوّاف الموسوي، عضو كتلة الوفاء للمقاومة، وتحمل تصوراً لتأسيس «مقاومة شعبية وطنية» في لبنان. وقد ضمّنها حاماتي الأفكار التالية:
أولاً: في الطريقة القانونية لتأسيس مقاومة شعبية وطنية في لبنان.
ثانياً: في دواعي تأسيس المقاومة الشعبية الوطنية.
ثالثاً: في هيكلية المقاومة الشعبية الوطنية.
رابعاً: في كيفية التحضير لإنجاح فكرة تأسيس مقاومة شعبية وطنية.

*أستاذ جامعي
--
انسيرت:
في الذكرى لرحيله، صدرت رسائل المفكر القومي عن «دار الفرات» في مجلّدَين