تابعت أخيراً الآراء المتنوّعة حول ماهية المقاطعة والتطبيع على خلفية الحفلة الأخيرة التي أحياها صابر الرباعي في قلعة دمشق بعدما زار في عام 2016 فلسطين المحتلة بحماية إسرائيلية واضحة وإحيائه حفلة في مشروع «روابي» المتصهين، إلى جانب إقامة آمال المثلوثي حفلات في فلسطين المحتلة بالتعاون مع مؤسسات بعضها مناهض للتطبيع تاريخياً، ودخول الفنانة التونسية فلسطين بموافقة إسرائيلية، ومفاجأتنا بموقفها الحالي والاحتفاء بها في مؤسسات قد تكون قريبة من سلطة أوسلو.تابعت كلّ المغالطات التي رافقت هذه الأحداث. أقول مغالطات لا افتراءات لأني لست في موقع يخوّلني محاسبة أي إنسان. لكني سأحاول هنا تفنيد هذه المغالطات غير المبنية على حقائق. مغالطات يمكن وضعها في إطار الجهل أو في إطار محاولة تجهيل الرأي العام وتضليله.
لن أناقش هنا رأيي في أدبيات حملات المقاطعة العربية، ولا الحدود الفاصلة بين الحق في ممارسة مقاطعة الظالم التي تهدف إلى نصرة المظلوم، وبين المشاركة في تطبيع شرعية الظلم في لاوعي الناس، فهذا الأمر يحتاج إلى طاولات حوار بين المناضلين على أرض الواقع في الداخل الفلسطيني المحتلّ وفي المناطق التي تخضع لسلطة أوسلو وفي البلدان العربية المطبّعة وغير المطبّعة، إلى جانب عرض كلّ الهواجس والتحديات التي يواجهونها من خلال التماس المباشر مع المثقفين والفنانين والرياضيين والأكاديميين الذين يدعونهم إلى عدم المشاركة في تلميع الجرائم. كما يحتاج إلى دراسة تأثير المتغيرات المختلفة التي شهدها العالم العربي، على القضية الفلسطينية، كالمعاهدات العربية مع إسرائيل، وتنامي المقاطعة العالمية وتفاقم مشكلات «إسرائيل» الداخلية.
لن أناقش أيضاً الآراء حول أحقية مناصرة الظلم الواقع بحق المهاجرين من أفريقيّي جنوب الصحراء من قبل الدولة التونسية، بالتوازي مع الدفاع عن الفلسطينيين، لأنّ مناصرة المظلوم في مكان ما على الأرض من قبل مجموعة ما لا ينفي وجود أي قضية أخرى، ولا حقّ أي إنسان في محاربة أي نوع من أنواع الظلم.
وعي الشعب العربي تجلّى بأبهى حلله في مونديال 2022 في قطر


قد يقصّر المناضلون من أجل حقوق الإنسان في بقعة ما، غالباً، في مناصرة المظلوم على أرض ما قد تكون متلاصقة بالمكان حيث يعيشون أو بعيدة عنهم. لكن، أليست قضايانا متقاطعة من خلال محاربتنا للعنصرية والاستعمار على أي أرض، ومرتبطة الأصول والجذور، فهي تتعلّق بالهيمنة العالمية على ثروات وعقول الناس في كل الأرض. لا يمكن لأي مجموعة صغيرة مستقلة أن تكون ملمّة وفعّالة بكل القضايا. لكن طبعاً، قلة الحيلة لا تبرّر الصمت عن أي ظلم.
سأتناول هنا، كما قلت سابقاً، المغالطات التي تؤدي إلى تضليل الرأي العام بعلم من ممارسيها أو بجهل منهم. مغالطات رافقت أخيراً النقاش حول مدى تأثير الزيارات الفنية، وخصوصاً إلى فلسطين المحتلة بتصريح من الاحتلال. حتى لو كان الذين يمارسون تضليل الناس لا يهدفون إلى ذلك، فهم غير معذورين لأنهم في أغلب الأحيان ممن يمتلكون المعرفة بمدى تأثير الكلمة أو قول أنصاف الحقيقة على الرأي العام، وبنتائج تجهيل الوجه الآخر من الحقيقة، كما حصل في مقال لوسام كنعان نشر في «الأخبار» بتاريخ 8 آب (أغسطس) 2023 بعنوان «صابر الرباعي غنّى في قلعة دمشق... بدون اعتراضات». إذ غيّب المقال النبض الشعبي السوري الذي استبق هذه الزيارة بأسابيع، وأدى إلى رفع دعوى على الشركة المنظمة للحفلة من قبل المذيعة فاطمة جارودية، وإلى التفاعل الرافض لزيارة الرباعي إلى قلعة دمشق من قبل الأديبة ميس الكريدي.
قد يبرر الكاتب عنوان مقالته ومحتواها المتجاهل لكل ما سبق بأنه يقصد غياب موقف النقابات والوزارات المعنية الرافض لهذا النوع من التطبيع المبطّن لشرعية وجود الكيان الصهيوني، لكن لو كنت قارئة غير متابعة للمواقف المتصلة بمقاطعة «إسرائيل» على الساحة العربية والعالمية، لكان أول ما تبادر إلى ذهني هو غياب الاعتراض الشعبي أيضاً.

ادعت آمال المثلوثي بأنّ الحملات المعترضة على خطوتها التطبيعية سببها أنها امرأة!

ونحن نعرف أهمية تأثير النبض الشعبي المصري والأردني المقاطع رغم عقود التطبيع الرسمي على وعي الشعب العربي من المحيط إلى الخليج. وعي تجلّى بأبهى حلله خلال مونديال كرة القدم 2022 في قطر.
أيحق إذاً لكاتب أو صحافي أو باحث أن يغيّب نصف الحقيقة؟
وكل كاتب وصحافي وباحث يعلم كيف يمكن أن تؤثر الطريقة التي تُقال بها أي كلمة على وعي الناس. فهل هذا مقصود؟
التلاعب بالرأي العام يصبح أكثر تأثيراً عندما تتبنى فنانة متسلّحة بمواقفها الوطنية والمناصرة للقضية الفلسطينية مغالطات غير مبنية على وقائع، وتفتح لها المنابر العالمية من دون أن يتنبه أحد من مدّعي المهنية، عمداً أم سهواً، إلى ضرورة العودة إلى صفحة وبيانات الحملة التونسية لمقاطعة ومناهضة التطبيع مع الكيان الصهيوني والتأكد من أي معلومة ينشرونها.
تبنّي اتهام حملات المقاطعة بالذكورية التي تفرض آراءها على كل من يريد زيارة فلسطين، هو تضليل لأن البيان الذي يعرض لرأي ما، ليس سلاحاً ومواجهته تكون بعرض أفكاره ومناقشتها، وليس برمي ونشر التهم العشوائية.
هذا وقد ادعت آمال المثلوثي أنها هوجمت لأنها امرأة في مقابل التزام الصمت عن زيارة فنانين كلطفي بوشناق إلى فلسطين المحتلة، وهذا تضليل أو جهل بموقف وبيانات الحملة التونسية لمقاطعة مناهضة التطبيع مع الكيان الصهيوني.
هل هذا هروب من مناقشة الأسباب التي أوردتها الحملة التونسية في بياناتها من خلال تضليل الرأي العام وتحوير النقاش؟
ويأتي بعدها مَن يتّهم حملات المقاطعة والمدافعين عنها بالغوغائية والعشوائية وبفرض إرادتها على الرأي العام.
الغوغائية والعشوائية يتمثّلان في إلقاء التهم غير المبنية على حجج، وعن أي رأي عام نتحدث؟ عن ذلك الذي يتلاعب بوعيه مَن يمتلك سلطة الكلمة والميديا.
بين المقاطعة وتطبيع شرعية الاستعمار شعرة، فلا تقطعوها يا مدّعي مناصرة القضايا المحقة ومنها فلسطين من خلال التلاعب بالوعي الشعبي.

* حملة مقاطعة داعمي إسرائيل في لبنان سابقاً