إنه كتابُ سيرة، لا كتاب رحلاتٍ فحسب، وكلا النوعين من الصنعة تحتاجه المكتبةُ العربية، ذلك أنَّ الحكايا في هذين النوعين تضيف إلى قارئها الكثير. وكلما زادت الرحلة عمقاً، سواء كانت شخصية تجريبية أو ترتبط بالمسافة والجغرافيا، زادت المتعة والمعرفة وعمق التجربة والخبرة. في كتاب «دروب الحرير: الرحّالة 2» (هاشيت أنطوان) يضيف الإعلامي اللبناني سامي كليب إلى مكتبته كتاباً تأريخياً لرحلاته الكثيرة عبر العالم، لا في توصيفٍ جغرافي فحسب، كما قد يعتقد القارئ، بل إنه يشرك القارئ في حياته الشخصية، مسامراً الشخصيات التي عايشها الكاتب، فضلاً عن التجارب التي عبر خلالها. في هذا الجزء، يتابع الكاتب الرحلة بعدما بدأها في كتابه السابق «الرحّالة- هكذا رأيتُ العالم».«لو أن واقعنا جميل، لما كانت أحلامنا مجنونة»، بهذه الكلمات المباشرة والموحية، يبدأ كليب العمل ليقول لقرائه إنهم أمام رحلة قبل أي شيء: «شعرتُ بأنك عيناي اللتان فقدتهما، فشاهدت عبرك روائع هذا الكون، لا تتوقف عن الكتابة إن أردتني أن أرى دائماً» هكذا اخبرته «ناريمان» القارئة الضريرة التي أراها العالم، كما قالت. «كلما جلستُ في قاعة الانتظار في مطارات العالم، ينتابني شعورٌ عاشق ذاهب للقاء حبيبته. وإن كان الحب يحتمل الخذلان أحياناً، بحيث إن وصل الحبيب يكون أقل متعةً من الطريق إليه، فإن عاشق السفر لا يعرف الخذلان». يغوص هنا في «فلسفةٍ غنوصية جمالية» (الغنوص هو العرفانية والمعرفاتية) لماهية كتابته لهذا الكتاب، ما سبقه، وما سوف يليه. يعود بعدها ليشير إلى ما يخفيه الكتاب: «ثمّة طريقان يتوازيان في الترحال: أحدهما إلى العالم، والثاني إلى داخلنا. يقيني أنهما يتكاملان في نهاية المطاف. فالبهجة بالخارج، تجعل أرواحنا هانئة، واستعدادنا الداخلي لاكتشاف تلك البهجة يجعل كل ما حولنا أجمل».
يقسم الكتاب ضمن سياقٍ اختاره الكاتب لربما بحسب حركته، فهو ينطلق من عدّة فصول تناول فيها «لبنان كما نحبّه» الذي يقسمه إلى تسعة مقاطع متفرّقة وعدّة أبواب، ليمرر ضمن تلك الفصول أبواباً حول الجزائر والمغرب في توليفة خاصة. ينتقل بعد ذلك إلى فصل جديد متحدّثاً عن روسيا في عدّة أبواب، ماراً بالعراق التي أسماها «بلاد ما بين الضلعين»، الفحيص وموريتانيا. ينتقل بعدها إلى فصلٍ كاملٍ حول الصين ضمن أربعة أبواب معنونة ليختتم الكتاب بنصٍ ختامي. يزدان الكتاب بالصور التي أخذها الكاتب إما بنفسه، أو ظهر فيها ليضيف بعداً واقعياً مرئياً لرحلات الكتاب وصفحاته. في الكتاب لا تسيطر الجغرافيا على حكايا الناس، بل تتمازج وإن أطلت حكايا الناس، قبل أي شيء: «سألته على سبيل المعرفة لا التشجيع: هل فكرت وأنت تتعذّب كل هذا العذاب، في أن تطلّق زوجتك، وتتزوج أخرى، تُنجب. سارع بشهامة الجزائريين وأصالتهم إلى القول: أعوذ بالله يا أخي، فأنا كنت وما زلت أحبّها جداً، وهذه بنت ناس كيف أتركها لأنها لا تنجب، ثم الله شاهد علينا، فربّما لو أقدمت على هذا الأمر الشنيع لحرمني من الأطفال». يورد القصّة ضمن حكاية «كنت طبيباً في الجزائر فصرتُ سائق تاكسي». في الوقت نفسه، لا ينسى مزج التاريخ بالجغرافيا بالسياسة، «زرنا معظم الكنائس في بلدة الفحيص، التي عرفت كيف تحافظ على التراث المسيحي مع حذرٍ واضح من قدوم أيّ غريب للإقامة هنا. فهذه المناطق المسيحية المنتشرة في بعض الدول العربية، باتت أكثر من أي وقتٍ مضى، تخشى على حاضرها وتسعى للحفاظ على أبنائها والحؤول دون هجرتهم». إنه نقاشٌ جيوسياسي يرتبط حكماً بالتاريخ كما بالمستقبل. «لفتني أنه على جدران إحدى الكنائس، يبتسم سلطان باشا الأطرش في الصورة محاطاً برجال من الفحيص. فقائد الثورة السورية ضد الانتداب الفرنسي، لجأ إلى هنا؛ ولذلك يحفظ أهل الفحيص تلك الذكرى في قلوبهم ويفاخرون بها». هذه التفاصيل/ الحكايا المعرفية الصغيرة تجعل الكتاب -حكماً- ممتعاً ومعرفياً في آنٍ؛ وتجعل الكاتب لا مجرّد زائر بل أقرب إلى رحّالة كما يلقب الكِتاب. ولأن السياسة جزءٌ لا يتجزأ من كل حياتنا كمشرقيين، تحدد حياتنا، تغيّر فيها، وتغزلها، لم يكن غريباً أن نجدها في كل أنسجة الكتاب: «على يميني كان رجلٌ دمشقي سبعيني.. سألته عن وجهته فقال كندا. سألته هل يفكر في العودة للعيش في سوريا، أبرقت مقلته بما يشبه الدمع وقال: يا حسرتي على سوريا. أنا ابن دمشق، أحمل بلدي في قلبي وشراييني، وأبحث كل يوم عن بصيص أمل كي أعود، لن تجد يا أخي سورياً واحداً يحب أن يعيش في غير سوريا». لا ينسى الكاتب على عادة كتّاب الرحلات أن يورد أسئلته الوجودية التي تحوي كماً هائلاً من أسئلة مجتمعه وبيئته وشعبه: "لا أدري لماذا وأنا أهم بالذهاب إلى سوتشي ويالطا، قارنت بين الماضي والحاضر. فكرت فينا نحنُ العرب، كيف أننا كلما تحارب الكبار ندفع الثمن، وكلّما تصالحوا ندفع الثمن. هل هم أذكى منا، أم نحن بجهلنا تعلّمنا أن نبيع أوطاننا على موائد الكبار، فنصبح مجرد بيادق على رقعة شطرنجٍ كبيرة، ونسهم في تكسير نصال الأمم على نصال تآمرنا على أرضنا في جسد الوطن».
هو كتابٌ جمالي قبل أي شيء، شخصي للغاية، أراده الكاتب عامّاً يشي بما مرّ به من أحداث وتجارب ورحلات، وكذلك بأنه لن يكون الأخير ضمن نوعه وصنفه.