من المعرض
هناك مجموعة أخرى لوجوه منحوتة، حيث تماثيل نصفيّة يلفّها ضوء خافت وعتمة (أو ظلال) طاغية، وبالأبيض والأسود كسائر فوتوغرافيّات المعرض الذي هو نتاج مرحلة زمنية ممتدّة اختارها الفنان بدقّة وأخضعها لتقنية «كياروسكور» القائمة على الضوء والظلّ، بل على التحكّم بالظلال بشكل خاص. الفوتوغرافيات مشبعة بالتفنّن الضوئي وبـ«الكونتراست» بين ضوء وظلّ يرمزان إلى روح إنسانيّة هي في موقع التجاذب بين النور والعتمة، الحزن والأمل، الإيمان واليأس. ولكلّ فوتوغرافيّة حالتها الخاصة التي نحتاج إلى الوقوف مليّاً أمامها (لعلّ الجلوس أفضل) لاكتشاف أبعادها وأعماقها. لدى التوقّف عند كلٍّ منها، راودني إحساس بأنّني أكوّن بالخيال تتمّةً للمعاني المخفيّة خلف غلالة «محبّبة» تعمّد الحاج إخفاء تفاصيل ورموز خلفها، مغيّباً عمداً بعض ملامحها، تاركاً لزائر معرضه إكمال تلك التفاصيل بقراءته الذاتيّة لكلّ لوحة. وهذه مقاربة تنتمي إلى الأسلوب «التأثيريّ» الذي يولّد مشاعر مختلفة لدى كلّ متلقٍ حيال عالم يختفي تدريجاً. والتأثير هذا يرافقنا إلى ما بعد مغادرتنا قاعة العرض، وهو دليل على أنّ فوتوغرافيات جيلبير الحاج لا تدعنا خارج الوَقع والتأثير فتلازمنا لفترة طويلة.
ما برح التصوير بالأبيض والأسود يجذب الفنانين الفوتوغرافيين رغم التطوّر التكنولوجي الذي يسمح بالتفنّن اللونيّ. إنّها في النهاية مسألة اختيار تعبيريّ لا علاقة له بالتطوّر، أو بالقديم والحديث. الهدف هو إخضاع تصوّر الفنان للمناخ الضوئي (والظلّي) الذي يلائمه، والأكثر ملاءمةً لإرادة الإظهار والإخفاء في اللوحة الفوتوغرافية. بل إنّ لعبة الضوء والظلّ سمحت بتلك التنويعات على أشكال متشابهة (الأزهار والوجوه) إنّما كلّ مرة من زاوية ضوء وظلّ مختلفة، وهذا تحديداً الملفت في معرض جيلبير الحاج، الفنّان والأستاذ في عدد من الجامعات اللبنانية، ودائم الاطّلاع على تيارات الحداثة وما بعدها في العالم، خصوصاً في أوروبا الذي يزورها باستمرار للإطلاع أو للمشاركة في معارض فوتوغرافيّة. الفنّ الفوتوغرافيّ شغفه وحرفته منذ سنوات بعيدة، وهو متعمّق جداً في فنّه واختصاصه، ودائم الاطلاع والانفتاح على كل جديد في هذا الميدان التعبيريّ.
* «الأرض مثل الطفل الذي يحفظ القصائد عن ظهر قلب»: حتى 28 شباط (فبراير) المقبل ـــ «غاليري تانيت» (مار مخايل) ــ للاستعلام: 01/562812