عندما ظهر علم النفس بوصفه علماً في مطلع القرن العشرين، ركّز على الأسباب البيئية للسلوك فقط. لهذا، هيمنت على علم النفس منذ ظهور فرويد مقولة أنّ شخصيتنا تتكوّن مما نتعلمه وما نمرّ به. ساد افتراض بأن البيئة الأسرية والتنشئة هما العامل الأساسي في تحديد من نكون. لكن في الستينيات، بدأ علماء الوراثة بتحدي هذه النظرة. من خلال الأبحاث الممتدة على عشرات السنين، اتّضح أنّ السمات النفسية تنتقل من جيل إلى جيل بسبب التأثير الوراثي، ولا علاقة للبيئة أو التربية بمن نكون. هذا ما يخبرنا به رُوبرت بلومين أستاذ علم الجينات السلوكي في «جامعة كينغز كوليدج» (لندن) في كتابه «المخطط الوراثي- كيف يجعلنا الـ DNA من نكون» الصادر أخيراً بالعربية (ترجمة نايف الياسين ـــ سلسلة «عالم المعرفة»).
أنف تشارلز داروين أوصله إلى نظرية النشوء والتطور!

أهم شيء يعطيه الأهل لأبنائهم هو الجينات وفق علماء الوراثة السلوكيين وبلومين الذي يوضح في كتابه أن تنشئة الأطفال لا تحدث تغيراً جوهرياً في شخصياتهم، إنما طبيعة التنشئة نفسها هي التي تحدث فرقاً. من خلال دراسة حالات تظهر الأثر الوراثي في التوائم والمتبنّين، اكتشف علماء الوراثة السلوكية، بعض أهم النتائج في علم النفس، إذ أصبح بالإمكان للمرة الأولى فصل الطبيعة عن التنشئة، ومعرفة أثر كلّ منهما علينا. يخبرنا بلومين أنه «بوصفك أباً أو أماً، فإنك تشعر في أعماقك أنك تستطيع تطوير أطفالك فكرياً وعاطفياً ونفسياً. تستطيع أن تساعد أطفالك في القراءة والحساب لأن كتب تربية الأطفال ووسائل الإعلام تخبرك بذلك. لكن ذلك ليس صحيحاً». يجادل بلومين بأن جميع الأطفال ذوو فرص متساوية في التنشئة، ومع ذلك يكونون مختلفين رغم أن البيئة والتربية اللتين تجمعانهم متشابهتان، وأنّ ذلك يظهر بوضوح على التوائم. فهناك واحد منهما قادر على تحقيق إنجاز دراسي كبير، بينما الآخر يتعثر في حفظ جدول الضرب.
عندما تتذكر الأثر الذي تركه والداك في حياتك سواء بالإيجاب أو بالسلب، تتصور أنه الفاعل الأساسي في كونك مكتئباً مثلاً أو تعاني من آثار صدمة ما، أي أنك تتصور أن معاملة وتربية والديك سبب لما أنت عليه اليوم. لكن بلومين يرى أنّ الأثر ليس في ما فعله بك والداك، بل في الجينات التي مرّراها إليك. هذه النظرية استخلصها بلومين من أبحاثه التي استمرت ثلاثين عاماً على توائم عاشوا في البيئة نفسها، ومنهم من تفرّقت بهم السبل وعاشوا مع آباء مختلفين في بيئة مختلفة. خلص بلومين من خلال هذه الأبحاث إلى أن عنف وسلبية الآباء نحو أبنائهم، ليسا إلا استجابة لميول هؤلاء الأبناء للاكتئاب أو العدوان، وأن لطف الآباء نحو أطفالهم ليس سوى انعكاس للطف هؤلاء الأبناء. يقول: «يمكن القول بتعبير فج إنّ الأبوين اللطيفين لديهما أطفال لطيفون لأنهم جميعاً لطيفون وراثياً. وسبب آخر أن الأبوة تكون في كثير من الأحيان استجابة للميول الوراثية للأطفال وليست سبباً لها. فمن الصعب أن تكون أباً حنوناً لأطفال لا يجعلونك تشعر بالحنان، أي أنهم يختارون ويعدلون ويخلقون البيئات المتلازمة مع ميولهم الوراثية». يرى بلومين مرة أخرى، أن ليس للأباء أي دور مادي في جعل أطفالهم يعانون بسبب العنف الذي تمت ممارسته عليهم، أو معافين بسبب الحب الذي تم منحهم إياه أثناء فترة الطفولة، إنما هؤلاء الأطفال لديهم جينات جعلتهم عبر الزمن راشدين مصدومين أو مكتئبين بغضّ النظر عما مرّوا به داخل أسرتهم.
يشرح بلومين أن أثر البيئة ينتج من تجارب كثيرة، لكل منها أثر صغير. وقد يكون هناك عدد كبير من التجارب التي تملك هذا الأثر الصغير بحيث تكون متفردة جوهرياً، لكنها تعود إلى المصادفة. يقول: «من المذهل ملاحظة المرات الكثيرة التي تشير فيها السير الشخصية إلى مصادفة، مثل مرض يصاب به المرء في الطفولة، بوصفها محورية في تفسير الاختلاف بين الإخوة. أحد الأمثلة هو حكاية تشارلز داروين التي يرويها في سيرته حول الكيفية التي وصل فيها إلى رحلته التي دامت خمس سنوات على متن «سفينة بيغل»، التي أوصلته إلى نظرية النشوء والتطور. كتب داروين: «كانت رحلتي على سفينة «بيغل» أهم حدث في حياتي، وحدّدت مسيرتي المهنية برمّتها، بيد أنها اعتمدت على حدث ثانوي جداً تمثل في عرض عمّي عليّ أخذي بعربته مسافة 30 ميلاً إلى شروزبيري، وهو أمر لا يفعله كثير من الأعمام، والسبب سخيف يتعلّق بشكل أنفي». ويستطرد بلومين: «تشير ملاحظة داروين بشأن أنفه إلى القبطان الدونكيشوتي لـ«سفينة بيغل» القبطان فيتزروي، الذي التقاه داروين للمرة الأولى في شروزبيري في مقاطعة شروبشاير. وكاد فيتزروي أن يرفض مشاركة داروين في الرحلة لأنه كان يؤمن بالفراسة، التي كانت تستخدم شكل الرأس للتنبؤ بالشخصية. أعطى شكل داروين لفيتزروي إشارة إلى أن داروين لا يملك ما يكفي من الطاقة والتصميم للقيام بالرحلة. وفي إحدى نكاته القليلة، كتب داروين أنه خلال الرحلة، أصبح فيتزروي مقتنعاً بأنّ «ما قاله أنفي، كان كذباً»، بينما أشار فرانسيس غالتون مؤسس علم الوراثة السلوكي في القرن التاسع عشر وأحد أقرباء داروين، إلى أهمية المصادفة عندما علّق على «الآثار النزوية للمصادفة في إنتاج نتائج مستقرة». قال غالتون بأنّ الخيوط المتشابكة التي تشد بصورة متكررة، سرعان ما تتحول إلى عقدة محكمة. بعبارة أخرى، فإنّ أحداثاً عرضية ثانوية يمكن أن تكون لها تداعيات على مدار الزمن». مع ذلك، يرى بلومين أن الأمر أكثر تعقيداً في ما يخص الأحداث العرضية التي تسبّب أثراً دائماً، إذ إنها غير مستقرة تماماً، وتكون مصادفة في الأغلب. في عام 1987، كتب بلومين عن هذا بوصفه «الأفق المظلم» أي احتمال أن تفرز البيئة أحداثاً غير منتظمة أو ذات خصوصية، تحدث بمحض المصادفة. بعبارة أخرى، فإنّ التأثير البيئي الرئيس الذي يجعلنا من نكون، قد يعود إلى أحداث عرضية لا يمكن التنبؤ بها. لكن بدلاً من القبول بهذا الاحتمال المظلم منذ البداية، كان منطقياً بالنسبة إلى بلومين البحث أكثر عن مصادر منتظمة عن أثر البيئة. لكن بعد ثلاثين عاماً من البحث غير الناجح عنها، أحسّ بلومين أنّه حان وقت القبول بـ«النفق المظلم» وأن أثر البيئة يحدث مصادفة ولا يترك آثاراً دائمة. أما المصدر المنتظم المستمر والدائم لمن نكون، فهو الـ DNA. ما يحاول بلومين إيصاله إلينا عبر كتابه أنّ الوراثة تشكل جزءاً كبيراً من فهمنا لمن نكون، وأنّ ما نمر به سواء من تربية أو تجربة حياتية صعبة أو لطيفة، لا يهمّ كثيراً، لأن أثره علينا ليس طويل الأمد، إذ إننا في النهاية نعود بصورة طبيعية إلى مسارنا الوراثي. لكن هذا لا يعني أن الجينات قدر، بل إنّه من المنطقي أكثر أن نسير في الاتجاه الذي تدفعنا فيه جيناتنا، بدلاً من محاولة السباحة عكسها، أو كما قال الممثل والكاتب الكوميدي دبليو سي فيلدز: «إذا لم تنجح في البدء، حاول، حاول مرة أخرى، ثم توقف لأنّ حماقة الاستمرار لن تنفعك في شيء».