رغم الأوضاع اللبنانيّة المأزومة سياسيّاً واقتصادياً واجتماعياً وامنياً، يمكن القول إنّ الحركة الفنّية بعامّة، والتشكيلية بخاصّة، استطاعت بحدود معيّنة تجاوز هذا الواقع الصعب فحافظت حركة المعارض على بعض نشاطها واستقبلت أعمال الفنانين في بيروت ومختلف المناطق اللبنانية، كأنّ في الأمر تحدّياً واستمراراً ومقاومةً للوضع الضاغط بواسطة التعبير الفني، وفي كلّ المجالات. لكنّ سؤالاً يظلّ مطروحاً مع قيامنا بجردة للمعارض التي شهدها العام المنتهي: هل تمكّن الفنانون الذين قدّموا أعمالهم خلال هذه السنة الإتيان بأي إضافة جديدة على الحركة التشكيلية في لبنان والعالم العربي (إذ استقبلت غاليريات في بيروت أعمالاً لغير اللبنانيين أيضاً)؟ هل كانت ثمة «طليعيّة» جديدة كتلك التي برزت في السبعينيات من القرن الماضي؟ هل جاءنا الفنانون بأساليب مختلفة ومهارات مميّزة سواء في الكلاسيكي أو الحديث؟ وهل كان ثمة استسهال لدى فنانين جدد أو حتى مخضرمين وتسرّع في عرض الأعمال؟ مع الإشارة إلى أنّ فنانين من جيل السبعينيّات والثمانينيّات والتسعينيّات أطلّوا بأعمالهم هذه السنة وقدّموا خلاصة لتجارب كبرى سابقة لهم. في ما يلي، استعادة لأبرز ما أنجز تشكيلياً خلال سنة.

من أبرز المعارض التي يمتدّ بعضها إلى مطلع السنة الجديدة، يلفت ذاك الخاص بالفنان السوري بطرس المعرّي في غاليري «كاف للفن المعاصر» في الأشرفية، موجهاً تحية مزدوجة الى بيروت والى الكاتب الراحل جبور الدويهي، ومستعيراً عنوان إحدى رواياته «سمّ في الهواء». شخوص المعرّي تخفي أسراراً وحكايات هي من وحي ذكرياته في بلده، والأسلوب متأرجح بين التجريد والرسم الغرافيكي بالأبيض والأسود، والمنحى تبسيطيّ في متناول عين المتلقّي، سواء كان نخبويّاً أو عاديّاً، والنص الروائيّ والشعري دوماً مصدر إلهام له، مُغْنياً لوحته بالخطوط والزخارف والنصوص، قريباً من أجواء البيئة الشامية، وبعيداً عن التعقيد. أضف إلى ذلك نبرة السخرية المريرة والأشكال البسيطة والمتمثّلة في مراكب ورقية بيضاء هشّة يكثر حضورها في الأعمال المعلّقة على الجدران أو المرسومة مباشرةً عليها.
إيلي رزق الله رسم «تحوّلات» بيروت في غاليري Mission Art. رسم المنظر الطبيعي مرتكزاً على ثقافته ودراسته للون والشكل والتصميم، فهو متمكّن، وفرشاته صارمة تضفي نوعاً من الإثارة على سطح اللوحة، وهو مجازف في تصوّراته، مستكشف باستمرار، يسأل، يتحدّى، ويسعى إلى معنى جديد. يفيد من قدراته الخطيّة التي ترفع أعماله إلى مستوى بصريّ مختلف.
محمد العبيدي اشتغل في معرضه «أعضاء غريبة» في «غاليري صالح بركات» على ثيمات المنفى والحرب وضياع الهويّة في مرحلة ما بعد الغزو الأميركيّ . جداريات سيريغرافية تظهر هشاشة الكائن وتستدعي تاريخ المجازر ومآسي الحروب المستمرّة في بلده وبلدان عديدة في المحيط العربي والعالم، وكاشفاً وجه الإنسان الحقيقيّ، المتلطّي خلف أيديولوجيّات مختلفة تتيح له تأويل المعنى والحدث والواقع بأكثر من تفسير. ‏العبيدي فنّان مترحّل، غير مستقرّ في مكان واحد. معرض «أزمنة ملتبسة» للميا جريج في «غاليري مرفأ» تضمّن وثائق وأبحاثاً تغطّي الحقبة ما بين نهاية الإمبراطوريّة العثمانيّة ومطلع الانتدابين الفرنسي والبريطاني في لبنان وسوريا وفلسطين. وهبت جريج دوراً أساسيّاً للتوليف البصريّ بين الرسوم والفوتوغرافيّات والوثائق التاريخيّة من الأرشيف، فضلاً عن تعليقات ونصوص خاصة بها. كما أنّها اعتمدت مفهومين فنّيين: الأول متعلّق بالفنون البصريّة رسماً ونحتاً وأشكالاً تعبيريّة معاصرة، والثاني متّصل بفن ما بعد الحداثة الذي يوازن بين الممارسة الفنية والفكر، حتى إنّ الفكرة تحتلّ المساحة الأوسع من العمل.
خالد التكريتي اشتغل في معرضه في «غاليري عايدة شرفان» على مسائل متعلّقة بالمجتمع الاستهلاكيّ والحرّيات الفرديّة المقيّدة. الألوان في لوحاته مبهجة. يرسم وجوهاً نسائيّة تنتمي إلى عائلات أنيقة العيش، ويرسم في المقابل بورتريهاً لرأس حمار للضحك والمتعة. يستخدم أسلوب «البوب آرت» القريب من فنّ الإعلان، بعيداً عن أي تجريد، وعلى نحو ‏دقيق ومتقن وبالأكريليك الذي يؤسّس له بتقنية الكولاج قبل نقل المشهد إلى اللوحة. لفتتنا في معرضه المستويات المختلفة للأكريليك الذي يمشح به سطح اللوحة بشكل رقيق لتبدو لوحة طباعة أو غرافيتي. وفي عمل آخر، يراكم الطبقات اللونيّة لتنويع الأساليب والتقنيات.
رياض نعمة رسم في أعماله التي علّقت على جدران غاليري Art Scene الجنديّ واللباس العسكريّ اللذين يشيان بالعنف المنتشر في العراق، كما في بلدان عربية أخرى. تتحوّل صورته إلى قناع على سطح اللوحة مشبع بألوان قويّة، في حين جمع شارل خوري في «غاليري مارك هاشم» عالم الحيوان والطبيعة وطقوس البيئة الإنسانيّة، استناداً إلى مخيّلة هندسيّة كثيفة الأشكال والخطوط والألوان، في توازن دقيق بين الخطّ واللون. حمل معرضه عنوان «ما وراء الحدود» حيث مزيج من الكائنات الطبيعيّة، الحيوانيّة والإنسانيّة، غير ملتقية بأسلوب كلاسيكيّ، بل برؤية سورياليّة مليئة بالغرابة التي ميّزت السورياليّة والدادائيّة في الربع الأول من القرن العشرين مع أمثال دالي وماكس جاكوب. تناثر العناصر أراده الفنان ركيزة للوحته السورياليّة المجرّدة من المعاني اليقينيّة الواضحة.
إلى محترف «متحف» أناشار بصبوص في راشانا، حيث تتجاور المنحوتة مع الطبيعة الآسرة، فتتداخلان في مناخ يردّنا إلى الأسطورة. ويراوح أسلوب أناشار بين الشغف بالأشكال الهندسيّة تركيباً وبناءً، والحلم والمخيّلة، والصرامة المهنيّة، منجذباً إلى المادّة الملائمة لكل فكرة وشكل هندسيّ، ومعتمداً النحاس والألمنيوم والستنليس والبرونز، مانحاً إيّاها في بعض القطع لون الصدأ لتبدو معتّقة ومعرّضة لعوامل الزمن وتأثير العناصر الطبيعيّة.
الفوتوغرافيّ خضر شرّي أقام معرضه في «بيت الصورة» (الجمّيزة) الذي نظّمته «غاليري آرت ديستريكت» وكلّ صورة تروي مغامرة وتكشف مشاعر وانفعالات. جان مارك نحّاس في غاليري The LT بسّط التقطيعات داخل اللوحة الواحدة (كادرات متفرّقة ضمن كادر واحد) فيما أسدل رحيل ليلى الشوّا الستار على كفاحها (الفني) بتقنيّات متعدّدة ومنوّعة كوّنت تجربة الفنّانة، خاصةً تلك التي كانت شائعة في ستينيّات القرن الفائت، بلوغاً إلى زمن التجهيز والفيديو والفوتوغرافيا وأدوات الميديا الحديثة. استخدمت الفوتوغرافيات في الكثير من أعمالها كركيزة لطباعة الشاشة الحريريّة (silk screen).
«بينالي ليون» وجّه تحيّة للمدينة المتعبة، بيروت، مختبر الحداثة التشكيليّة اللبنانية على أنواعها، فاستقبل أعمال فنّانين لبنانيين وعرب أقاموا في لبنان، وقدّموا إبداعاتهم في النصف الثاني من القرن العشرين، تحديداً بين أواخر الخمسينيّات ومنتصف السبعينيّات عند مفصل اندلاع الحرب الأهلية عام 1975، ومن بينهم: شفيق عبود، بول غيراغوسيان، إيتيل عدنان، فريد عواد والأخوة ميشال وألفرد ويوسف بصبوص، أسادور بزديكيان، رفيق شرف، أوغيت كالان، سلوى روضة شقير، منى السعودي، ضياء العزّاوي، جورج دوش، سيمون فتّال، لور غريّب، جان حديديان، جورج حاج موسى، خليل جريج، جمانة الحسيني، دوروثي سلهب، هلن الخال وجوليانا سيرافيم.
إلى المعرض التوثيقي «القنطرة» الذي يتعقّب الهجرة اللبنانية إلى البرازيل. رحلة ممتعة في مسيرة الجدود المهاجرين أقامته السفارة البرازيليّة في «دار النمر للفن والثقافة» في مناسبة مرور قرن ونصف القرن على رحلة الإمبراطور البرازيليّ دوم بيدرو الثاني إلى لبنان عام 1871. كان بيدرو مستشرقاً أيضاً، فدوّن جولاته اللبنانيّة ومذكّراته ومشاهداته وانطباعاته عن هذا البلد، حتى إنّ منظّمة اليونسكو تبنّت هذه المدوّنات التي تشكّل جزءاً من المعرض الذي يشمل رسوماً للآثار التي شاهدها، فضلاً عن صور من مجموعته الخاصة والمذكّرات والرسائل.
الأسلوب التراثيّ القديم والأسلوب المعاصر في مزيج مدهش قدّمته ليلى مصفي في معرضها «رحلة» في The Ark Lebanon في بيروت. 56 لوحة زخرفية منمنمة، تندرج في خانة ما يُسمّى بـ «الفن التطبيقيّ» الذي تطوّر من الفنّ الزخرفيّ إلى التشكيليّ الصرف، عبر مزج الزخرفيّة الهندسيّة العربيّة القديمة والتراثية بوجوه معاصرة من الزمن الجميل (مارلين مونرو، عبد الحليم حافظ، ليلى مراد…) وجماليات الأمكنة (بيوت قديمة، شرفات، حدائق، أزهار، ورود... ). معرض مصفي متعة فنّية بصريّة فريدة، تفيد من التراث لرؤية حديثة معاصرة.
معرض ثائر كرم في غاليري «آرت ديستريكت» اشتغل على تضادّ (كونتراست) الأبيض والأسود، والضوء والظلّ، وانطوى على حسّ فنّي مرهف وبراعة تكوين للّقطة لتوليد إحساس بدفء المشاعر. كان سرديّة بصريّة ترمي إلى تمجيد الحبّ.
«ألو بيروت؟» في «بيت بيروت» ضمّ الوسائط الفنية المعتمدة مثل الفيديو والصوت والأرشيف لتكوين ذاكرة تظهر هوية المدينة المتبدّلة عبر العقود. والفنانون العاملون على المشروع هم من الشبّان: كبريت، روان ناصيف، بيترا سرحال، وائل قديح، جوان باز، ليلي أبي شاهين، كريستيل خضر، إيفا سودرغايتي دويهي، رنا قبوط ورلى أبو درويش. إلى معارض كل من كارين عبد النور في غاليري Rebirth Beirut . فنّ ساخر، ترفيهيّ يقع بين اللوحة التشكيلية والكاريكاتور . وكاميران خليل علّق «أوهامه» في غاليري Mission Art (مار مخايل ـ بيروت). لوحات بالزيت والفحم تشي بالتقلّبات النفسيّة التي يختبرها الفنّان، ورؤيته إلى أنّنا نعيش في عالم محكوم بالعبث.
وجمع «مهرجان بيروت للصورة» ذاكرة للحاضر والمستقبل وشمل ستَّة معارض فوتوغرافية معظمُها عن لبنان وفلسطين في الماضي والحاضر. وشهدت سنة 2022 توجيه تحيّة لأعمال سمير مولر الحديثة، الحيّة، رغم قِدَمها، فالحرفيّة عمادُ جِدّتها حركةً ولوناً وتكويناً. ألوانه الترابيّة تمتّن أصالتها وحداثتها في الوقت عينه. الارتباط بلون الأرض يثبت ديمومتها. بعض أعمال مولر طين على كانفاس، فالطين هو اللون، والفرشاة هي أصابع الفنان. وفي أعماله المشغولة بمادة السيراميك نتوءات مجرّدة وشخوص راقصة ومزهريّات كرويّة تحاكي كرويّة كوكبنا.
لوحات وليد صادق في «غاليري صالح بركات» شرّعت على فضاءات شعرية صامتة. عاد بها إلى اللوحة والألوان، بعد تجارب متعدّدة في الكتابة والفنّ المفاهيميّ والتجهيز. عبر هذه المرّة باللون والمادّة، مقدّماً مجمل اللوحات التي أنجزها في العامين الفائتين، تحديداً منذ انفجار المرفأ في الرابع من آب (أغسطس) 2020 إلى اليوم.
حدث تشكيليّ مميّز استضافته «غاليري شريف تابت» وضمّ أعمالاً لفنانين من الهند وتونس والأردن وسويسرا، فضلاً عن البلد المضيف لبنان. عشرة فنانين هم دييلي سِنْ بهاتّا، نيفين مطر، كمال أبو حلاوة، علي الزنايدي، سومانا مالاكار، جوزيف فالوغي، رندة دوشادارينيان، عبد الرزاق حمودة وشارل خوري.
وأقيم معرض استعاديّ لأربعة تشكيليين راحلين في «غاليري أجيال»، ضمّ خمسة وعشرين عملاً بين لوحات زيتيّة وكولّاج ورسم بالحبر وغراڤور، اختيرت من مجموعات خاصة لكلّ من جوليانا سيرافيم (1934 -2005) وفادي برّاج (1940-1988) وجورج دوش (1940-2018 ) وسيسي سرسق (1923-2015 ) التي أنجزت ثلاثة بورتريهات بالفحم والألوان الزيتيّة للفنانين الثلاثة ساروفيم وبرّاج ودوش. معرض جماعي آخر أقيم في «غاليري تانيت» تحت عنوان «ثلاث نظرات لمصوّرات نساء» هنّ رندا ميرزا، وجمانة جمهوري، ورانيا مطر. صوّرت رندا ميرزا بيروت كمدينة «في طور التكوين»، مدينة للمستقبل. أما صور جمانة جمهوري الصناعية، فانطوت على إشكاليات إيكولوجية تعالجها مباشرةً أو مواربةً، لا من خلال الاستدلال على علامات «التصنيع»، بل عبر البحث عن المعنى النقيض. أما رانيا مطر فصورت الأنثى ‏وتبدّل حالاتها النفسيّة والشخصيّة.
كما وجّه مارون الحكيم تحيّة إلى بلده رسماً ونحتاً في معرضه في «غاليري Art on 56» بوسائط تعبير متنوّعة بين أكريليك وأكواريل وزيت وباستيل وغواش، تهدئ النفس المتعبة. غلب على المعرض المنحى التجريدي، والانطباعيّ في ملامحه. وقدمت ندى متّى في معرضها «الأرض أمّنا المالحة» في «غاليري آرت سكوبس» لوحات مشغولة برقّة ورهافة إحساس مدهشة.
وأقام الفنان العصاميّ آرام جوغيان معرضه في «غاليري تانيت» تحت عنوان «ألعاب ناريّة». غنائيته تكمن في الدراما اللونيّة. لجأ الفنان إلى الألوان ليفجّر بهجةً وتفاؤلاً طغيا على كلّ جزء من أعماله، نازعاً إلى التجريد والإدراك العفوي للشكل والحركة والانفعال وسط عالم من الأضواء والإيماءات.
وشهدت هذه السنة رحيل الفنانة ميراي حنين التي نحتت ثنائيات شرق وغرب، امرأة ورجل، ومزجت مراراً بين فنَّي النحت والتجهيز. تميّزت أعمالها بالتجريد وتنوّع المواد، مع أرجحيّة للبرونز ‏بنوعيه، المصقول وغير المصقول، فضلاً عن مادة الريزين مع بودرة الرخام. والإنسان فرداً، أو ثنائياً، يمثّل موضوعاً أساسيّاً لها، والمرأة لديها ذات قوام بهيّ بين رقص وجلوس وانحناء.
نظرة حنون غلّفت شخوص لوحات بهرام حاجو في غاليري 92 Downtown تحت عنوان «صورة للزوجين». رجل وامرأة، حصراً، يتكرّر حضورهما في وضعيّات مختلفة، كأنّهما آدم وحوّاء معاصران يحيلاننا على الأسطورة الأولى و«المؤسّسة» لطبيعة العلاقة بين الرجل والمرأة. يتعمّد حاجو الجمع في أدوات إبداعه بين الفحم والأكريليك وألوان البودرة، والرمل الذي يُؤْثِر ألوانه الطبيعيّة المُراوِحة بين الأحمر والأبيض المائل إلى البنّي الفاتح والرمادي. أمّا لوحته الخام باللون العاجيّ، فهي ملائمة للبيئة الرمادية المحيطة بشخصيتيه.
وكان لدينا معرّض نزار صابور في «غاليري كاف» .ألوان الشمس والأرض متعانقة ومتمازجة بالباستيل والزيت في بهجة لونية تراثيّة آسرة. صابور شديد التعلّق ببلده، وأكثر بمدينته، مفصحاً عن هذا التعلّق في لوحاته، قائلاً: «تأثرت شديد التأثّر بطفولتي. كل شيء في حياتي مرتبط بالأرض».
وقدمت عايدة سلوم معرضها في «غاليري جانين ربيز». الغابة أو ما هو وراء الغابة أو المشهد وما وراء المشهد مادة أولية لها، تشكلها بطريقة التجريد، والتجريد ليس اختصار الأشياء، بل اختزالها بلغة فنية تفتح هذه المعطيات إلى ما هو أبعد منها أي إلى سرّها الداخلي.
معرض عمر فاخوري في «غاليري المرفأ» تناول الجزء ليدل على الكلّ. أجزاء من الأجساد والمنازل والغرف والأدراج والأشياء الخاصة والصغيرة... حوّل الأشكال الهشّة والبقايا والشظايا إلى لوحات بالأكريليك ذات أحجام صغيرة أو متوسطة أو كبيرة. منمنمات فجيعة وخسارة وذكريات تنفذ إلى عمق الألم لضحايا أو ناجين. كذلك، راوح معرض غادة جمال في art on بين انفجارَي الحرب الأهلية والمرفأ. جسر ممتدّ ربطت ضفّتيه رسوم بالأبيض والأسود، أي بالفحم. ولكلٍ من التجربتين أسلوبه وأدواته، فيسير مثل نهر متعدّد الجداول.
معرض جماعي استضافته «غاليري تانيت» بعنوان «كان يا ما كان». احتفالية فنيّة تستمد مادّتها من الأساطير، أيّ من المتخيّل الفردي والجماعي بما ينطوي عليه من خوارق. 18 فناناً لبنانياً وعربياً، حاول كل منهم التعبير إمّا بتجربة مباشرة أو بذاكرة مكتسبة أو بتجريبية. وأقام عمر فرنجية معرضه في art district بعنوان «أشياء وأشياء أخرى» الذي جذب أنظارنا نحو الأبعد، نحو المدى المفتوح على إحساس بالمعنى غير النهائي، وعلى جمال لا يحدّه شعاع أو لون.
وبمبادرة من منظمة Fe -male، أقيم معرض «هنّ» في مجمع ABC (فردان) اقتفى أثر حضور المرأة في اللوحة والمنحوتة والصورة الفوتوغرافية، وصولاً إلى الفيديو، جامعاً أعمال 62 تشكيلياً، لبنانياً وعالمياً، جسّدوا المرأة في أعمالهم. كذلك، أقيم معرض شوقي يوسف «إنّها مجرّد قصيدة» في غاليري mission d’art حيث الجسد محور المعرض، ومن خلاله تعبر المراحل الزمنية والحالات العصيّة. أجساد تتفكّك وتتحلّل، تتلّوى وتتمدّد، تتمسّك بالفراغ، وذات لحظة تلتهم النار تلك الأجساد. الأحمر القاني يطغى، والأسود كأنّه خيط يربط حالات التشظّي. طغت الحدائق والنزهات على معرض الفنانة اللبنانية فاطمة الحاج التي اختارت جدران الغاليري الباريسية مكاناً لعرضها. اختزلت لوحاتها رحلة في الشرق والغرب حيث نصادف قلاعاً وحدائق تزهو بالألوان الحارّة المبهجة، والأسطورة التي تعيد وهجاً وألقاً لراهن مدينتنا التي تحاصرها نيران المآسي والحروب. اللون يحاول أن يطمس السواد، ويجهد الضوء في إنارة العتمة.
أياد وأرجل ورؤوس مبتورة تحيلنا إلى ضحايا انفجار المرفأ في «غاليري جانين ربيز». تتشلّع الأجساد وسط غرائز القتل والعنف، في ظل الحرب والدمار. هنا تحديداً، تُفلح ريشة جوزيف حرب وفرشاته خطوطاً وألواناً ورؤى، ضمن كيمياء لافتة شكلاً ومضموناً .
جورج ندره رسّام ما بعد الانطباعيّة، عرض في غاليري 92 Downtown ويبدو أنّ هجرته الطويلة لم تصرفه عن تغذية فنّه من مناظر لبنان الطبيعيّة المُرسِلة ضوءَها وألوانها إلى ذاكرته، متحوّلاً من الانطباع إلى التجريد، ومبتعداً عن أيّ رسوم تشخيصيّة، ومغلّباً اللون والعناصر الهندسيّة. لوحات المعرض أنجزها ندره في مدن متفرّقة، وهي على الكتّان أو الورق، بتقنيات متنوّعة ومختلطة تُستغّل فيها الألوان بحيويّة ودقّة. يستخدم أشكالاً معماريّة في عمليّة التوفيق بين الفراغ والامتلاء. أيمن بعلبكي ودانييل عربيد مثّلا لبنان في «بينالي البندقية». لبنان «مكان» مشترك للإنسانيّة البعد السياسي في العملين يُفسّر على ضوء الواقع اللبناني الراهن .
رحلة الغربة والمنفى وسمت المعرض الكبير للفنان الفلسطيني طارق كسوانسون في «غاليري صفير زملر» تحت عنوان «وَكنْ»، حيث تشكّل جذور الانتماء تيمة مركزية في أعماله، فضلاً عن الهويات الهجينة المتمازجة والسياقات المتعدّدة. وشاهدنا في لوحات جورج مرعب في «غاليري مارك هاشم» في باريس أصداء صوفيّة، مفعمة بأساطير المتوسّط. لوحات المعرض كانت تجميعاً لقطع من قماش فوق قماشة اللوحة، مطليّة ومقطّعة شرائح تُلصق ويُعاد طلاؤها لتشكيل غابات مترفة. والتجسيد المتدرّج للنبات وطبقات القماش أوصله إلى شجرة الأرز، الأجمل له. وهنا ينكشف تأثّره بالفنان اللبناني نبيل نحّاس. هو لا يرسم المكان، بل يجلب عالمه الخاص إلى هذا المكان. وإذ يؤوب إلى أشجار بلده، لا يرى مناظر طبيعية بل عواطف ومشاعر يمكن أن يلحظ فيها توجّهاً عقلانيّاً أيضاً يلجم الاندفاع.
كما تابعنا معرضاً فوتوغرافياً لماهر العطّار في «غاليري آرت ديستريكت» تحت عنوان «بيريتوس…مدينة مجيدة» لجأ إلى أسلوب وتقنيات الـ Lomography التي ترتكز إلى استخدام الأفلام الخام الفضيّة القديمة المعدّة للتظهير فالطباعة. تنقلت الفراشة بين الرسم والحفر والنحت... لتموت أخيراً في لوحة معرض عزّة أبو ربعية في «غاليري صالح بركات». تحت عنوان «توق» لجأت الفنانة إلى تفكيك تلك التحوّلات بوسائط متنوّعة، ثمّ أعادت جمعها في إطار مختلف، معبّرة عن صراع مع الوجود عبر «رفرفة» إيقاعيّة لفراشة. كأنّها نبضات قلب تتوق لكلّ شيء وللاشيء.