إنّ «موتيف الخصوبة» الذي حوّل الصحراء (أو البريّة) إلى واحة في قصّة مريم ارتبط في سياق السّورة ببنية أسطوريّة (ميثيّة). فحين تستحضر القصّةُ الأولى قلقَ زكريّا من الموالي لفقدانه العقب (19:5)، يأتي الجواب في القصّة التّالية، قصّة مريم، كأنه جوابُ الطّبيعة حول القلق الأبديّ بخصوص الجفاف والموت الذي عبّر عنه زكريّا بلسان حاله. فتخوض مريم رحلة نحو الصّحراء حيث يتمّ الاحتفال بخصوبة الأنثى بين النّخلة المحمَّلة بالرُّطب والنّهر الذي تفجّره المياه. النّخلة والمياه هما عنصران من عناصر الحياة ويتّصلانِ مباشرة بخصوبة الأرض. فالاحتفال بالخصوبة، هنا، ليس في صورة الواحة القائمة بين النّخلة ــ الشّجرة والسّريّ ــ الماء فحسب، وإنّما في صورة الأحداث نفسها. فيربط النصّ خوفَ مريم على المأكل والمشرب بخوفها من ألم الوضع، وهو ما يدمج صورة الأرض المنتجة بصورة الأنثى الولود التي عبّرت عنها جملة: {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّا} (مريم 24). فأولويّة ذكر السريّ (المياه) مع تكرار كلمة «تحت» في «مِن تحتها» (بطن مريم) أو «قد جعل تحتك سريّاً» (بطن الأرض) يشير إلى الدّاخل، إلى رحم الأمّ ورحم الأرض، أيْ إلى مفهوم الأمومة التي تتحكّم في الجسمين، جسم الأنثى وجسم الأرض معاً. فتظهر «تحت» الأولى بوصفها رحم مريم الذي سيلد غلاماً، بينما تظهر «تحت» الثّانية بوصفها رحم الأرض الذي سيفجّر المياه فيُحيي الأرض. هذه المقابلة بين تولُّد مريم على المستوى نفسه مع تولّد الأرض يعطي مريم صورة تتعلّق بالجوهريّ، أي ما يعطي الأنثى قيمة الخصوبة. فتأخذ الأنثى الخصبة مكانها اللّائق في حدائق الجنّة التي {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَار}، كما ينال المؤمنون والمؤمنات حدائقَهم التي وُعدوا بها. وتُدمج صورة مريم الأنثى وهي تهزّ الشّجرة لإطعام نفسها بقوّة الشّجرة التي تعطي الثمر والحياة هي الأخرى.
نستطيع تخيُّل هذا الإدماج بين مريم والنّخلة في صورةٍ للآلهة التي تعطي ثمرها في عمل فنيّ مِصريّ من السّلالة الثّامنة عشرة وهي من أكثر الصُّوَر دراماتيكيّة في دلالتها على أمومة الشّجرة. في هذه الصّورة، تختفي الأنثى داخل الشّجرة، ونرى فقط ذراعَيها الممتدّتَين خارجاً، وتحمل بالذّراع اليمنى خواناً (صينيّة) عليها طعامٌ وبخور، وتحمل باليسرى إناءً تصبّ منه الماء على الأرض.
إنّ المعادلة الرمزيّة للمؤنّث الأمومي، كما يقول الباحث أريك نيومن، تكمن في «المؤنّث الذي يطعم، يولّد، يتحوّل، الشّجرة، الرّكيزة من الجاد (الحجر الثّمين)، شجرة الجنّة، شجرة الكون، فكلّها واحدة». فالماء والأرض عنصران من عناصر التّوالد المتّصلة بعضها ببعض، ومِثل المياه تصبح الشّجرة المثمرة المكان المناسب لولادة الأبطال. فشجرة ولادة أوزيريس تتكرّر في ولادة أدونيس، وفي القرآن الكريم، يولد عيسى في ظلال المفهوم الأنثويّ للشّجرة. فالخوف على خصوبة الأرض وخصوبة الأنثى واحد، ولذلك إنّ إزالة أيّ ضرر أو اتّهام للعذراء (البطلة في القصّة)، كما يذكرنا نورثروب فراي، يعدّ ضمن موضوع الدّفاع عن التّوالد والخصوبة. وإذا كانت أهميّة خصوبة الأنثى لا تختلف عن أهميّة خصوبة الأرض، فإنّنا نلحظ اختلافاً بينهما، فمريم هي التي تخوض الرّحلة تجاه الأرض والعكس ليس بصحيح كما يشير أفلاطون:
في الخصوبة والتّوالد لا تقدَّم الأنثى كمثال للأرض بينما هي الأرض التي تصبح مثالاً للأنثى. لأنّ الأرض، بوصفها مفهوماً خلّاقاً للأنوثة يحكم كلّ حياة متولّدة، ويحمل السّر الأعمق والأصليّ «للحمل والخَلَف»، وهو ما ترتكز عليه كلّ الحياة الحيوانيّة. لذلك إنّ الأرض وتحوّلاتها ترمز إلى الجوهر الأعلى والأكثر لألغاز الأنوثة.
عبّر الجزء السّرديّ من سورة مريم عن الجدليّة المقلقة للإنسان


لقد عبّر الجزء السّرديّ من سورة مريم عن الجدليّة المقلقة للإنسان: الحياة ــ الموت. ونلحظ ذلك على مستوى باطن النّص، في طبيعة مريم، وفي منطق التّضادّ الذي نشعر به في قراءتنا للأحداث. فمريم تتلقّى البشارة بواسطة روح الله الذي يتمثّل لها بشراً سويّاً، فهذا الرّسول هو روح (ملَك) وبَشر (إنسان) في الآن نفسه. ثانياً مع أنّ مريم تؤكّد عذريّتها من حيث عدم مساس (جماع) أيّ بشرٍ لها، وهي الطّريقة المألوفة للحمل، فإنّها تحمل رغم ذلك. لكنّ حملها ووضعها كحمل ووضع كلّ أنثى لا يكون إلّا بألم، وألمها أكبر لأنّها تواجه ما تتوقّعه من قومها حتّى نسمع صرخة دعائها على نفسها بالموت، وهو ما يعبّر عن قوّة الأنثى، هذا بالإضافة إلى تكليفها الرّمزيّ السّعيَ لإطعام نفسها بنفسها عن طريق الإيعاز لها بهزّ الشجرة وهي في قلب الألم. إنّ تلقّي التّكليف وما فيه من فعاليّة يتحوّل لاحقاً إلى صمت، حين تصمت لاحقاً أمام ابن المهد، ليتكلّم دفاعاً عنها. لذلك، فكون مريم عذراء وأمّاً لا يجعلها مثالاً واقعياً للمرأة، وإنّما في ظلّ هذه الخوارق للسّنن الكونيّة في التّوالد، تصبح مريم المثال التّاريخيّ للأمّ في الرمزيّ أي تصبح هي الأرض. ذلك أنّنا لا نسأل الأرض ولا الشّجرة «أنّى يكون لك خَلَف»، ولذلك لم ينبغِ أن تتساءل مريم: {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ}، ففي الرّمزيّ لا جواب إلّا: {كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ}، وهو ما يسمّيه أفلاطون «السّر الأعمق والأصليّ للحمل والخَلَف»، وأسمّيه «سرّ الخلق».
أتذكّر في شرح منطق التّضادّ هذا كلمات نورثروب فراي الذي يعلّمنا أنّ «البنى الأسطوريّة تستمرّ بإعطاء شكل الاستعارات والبلاغة لأنواع متأخّرة من البنى»، مع أنّ رصيد الكتب المقدّسة – كما تقول نويفرث – هو في وساطتها كوسيلة لإزاحة الأسطرة بامتياز:
لقد لوحظ بالنّسبة إلى الأديان التّوحيديّة الثّلاثة أنّ كتبَها المقدَّسة لا تحيل بالطّريقة نفسها التي يحيل بها التّفكيرُ الأسطوريّ الأشياءَ إلى نظام مقدّس قديم (أركايك) يرتكز على البدايات الأولى التي تحتاج إلى حفظ، بل يحيل إلى أحداث تعدّ جزءاً من سلسلة أشياء مترابطة ومستمرّة لهذه الأحداث.

* مقتطف من «السيدة مريم في القرآن الكريم» (دار الساقي) لحُسْن عبّود التي توقعه يوم الأحد 4 كانون الأول ـــ من الخامسة إلى السابعة مساء