مجموعة مجهولة تتسم بالتفاوت الأسلوبي

  • 0
  • ض
  • ض

تحت عنوان «الديوان الأخير ــــ قصائد غير منشورة»، أصدرت «دار نلسن» أخيراً (2022) بالتعاون مع «مؤسسة أنور سلمان الثقافية» مجموعة شعرية للراحل خليل حاوي في الذكرى الأربعين على رحيله. تضمّنت المجموعة 17 قصيدة غير منشورة مع صوَر لمسوّداتها بخطّ يد الشاعر، ورسوم داخلية بريشة التشكيلي شوقي شمعون وصوراً فوتوغرافية وبورتريهات لحاوي وأغلفة دواوينه في طبعاتها الأولى، وتضمّنت تصديراً للشاعر اللبناني شوقي أبي شقرا يتناول فيه تجربة خليل حاوي ككلّ ابتداء من «نهر الرماد» (1957) وانتهاء بالديوان «المجهول». يصف أبي شقرا حاوي بـ «الشاعر القدّوس» الذي يمتزج الشعر في سيرته بالحياة، فيستحيل بالتالي فكاك الكلمة عن صاحبها، والدراما الشعرية بكل مكوناتها عن تفاصيل حياة «لعازر» الشعر اللبناني الذي شابهت نهايته المأساوية ذروة طقوس التضحية والفداء التي وصمت مجموعاته أجمع: «لا يبكي خليل حاوي ولا هو من جماعة النبلاء ولا من قبيلة الدمعة على رحيل الذهب والفضة وباقي المعادن، ولا من القوم الذين عندهم الضوء، ضوء القنديل وضوء المعرفة وضوء القصيدة تذهب في الفيافي وفي حقول الفاكهة والأشجار في فصولها، كما وفي تحولاتها وانقلابها من نقطة هائمة في الأرض وفي ملاعب السماء، إلى حيث الهلاك والانتقال من مرحلة البدء إلى مرحلة التمرد... إنه في تاريخنا الأدبي تلك الزينة ترقص على نفحة الريح ونفحة الصدق وأسلوب التضحية، وبين أهل القلم وتلاميذ الغد الذين لا يحيدون عن أن المسرحية هي الصدق وهي عنفوان يطير وكأنه لن يتراجع عن السمت، وعن أنه هكذا لا يغلق فمه ولا يرحم الجسد بل يأخذه كلمة هي الخاتمة والمزيج والعصارة، ومن قدوس حيّ وصادق إلى ملحمة هي القدوس الجديد». لا يمكن تقصي خيط أريان اللاقط في مجموعة حاوي المجهولة، إذ إن قصائدها قد تكون كُتبت على فترات متباعدة زمنياً، بخاصة أنّ الكثير من المسوّدات لا تحمل تواريخ(بعضها كتب قبيل وفاة الشاعر والآخر مثل قصيدة «حلم ترى دنياي» عبارة عن قصيدة قديمة نشرت في مجلة «الآداب» سنة 1953، ولم تنشر في مجموعة من قبل). كما أنّ الدار اقترحت ترتيبها بالنسق الذي ارتأته موافقاً لمزاج خليل حاوي الشعري وعوالمه الداخلية. إلا أن اللافت هو التفاوت الأسلوبي في هذه القصائد، إذ نعثر في قصيدة «عريق» القصيرة جداً على نثر صافٍ يشبه ما يسمى اليوم بقصيدة الومضة: «عاينت في الوجوه/ وجه صبي يحمل العمر الذي أتلفه أبوه»، كأنّ كل حكمة خليل حاوي وتجربته الوجودية، قد انضغطت وتكثّفت في سطرين اثنين لا ثالث لهما.

يفاجئنا بخمس قصائد مطعمة بأيروسية عالية وبقصيدة «رحبانيّة» الأجواء

كما يفاجئنا في قصيدة ثانية بعنوان «اغتصاب بلا دنس» بجملة سياسية مباشرة لا يعثر على مثيلاتها في كل نتاج حاوي الذي يعلو فيه الشعر على السياسة والمجتمع، ويقارب الواقع بلغة مشفرة وأقنعة مستلّة من الأساطير والكتاب المقدس، فنقرأ مثلاً: «كيف تلاشى غضبي/ كيف تلاشى عتبي/ كيف التوَت واستسلمت/ تلك الوجوه العاصفة/ مغتصبي/ مغتصبي/ وجه من وجوه الطائفة»، أو نعثر على نزعة انتحارية مباشرة مرتبطة بالوضع السياسي المأزوم في مكان آخر من الديوان: «فاتني الإفصاح/ أدركت محاله/ بين صمت واغتيال وعماله/ فلأكن غير شهيد/ مفصحاً عن غصة الإفصاح/ في قطع الوريد»... أو حين يتحدث عن مآسي الوطن في التاريخ وجغرافيا التعايش الصعب بين مكوناته: فيقول في قصيدة «لبنان»: «كنا جداراً يلتقي جدار/ ما أوجع الحوار/ ما أوجع القطيعة/ تغص بالفجيعة/ ما أوجع الجوار». كما يمكننا أن نقع أيضاً في غير موضع من الديوان على روح حاوي التي تزاوجت فيها الرؤيا مع الإيقاع والتوتر، كما هي الحال في قصيدة «عادت لي العاصية» التي تبدو كأنها تطل على الشاعر من أمسه فنقرأ: «عادت إليّ العاصية/ وتكوّمت في زاوية/ ثم ارتمت/ تعوي على نعلي وتعول/ والدموع/ تنهل من رعب/ له وقع الحوافر/ في الضلوع/ وتودّ لو كانت/ تئن على يدي/ كانت تطلّ عليّ/ من أمسي/ وتطلع من غدي/ تحنو تطيع/ تكيد تلسع تعتدي/ ريّا الغمامة يغتلي/ في غورها غلّ/ فحيح المجمرة/ كنتُ الشفيع/ وكنت قلباً يكتوي/ بضراوة حرى/ ويعصى المغفرة». كما يفاجئنا بخمس قصائد مطعمة بأيروسية عالية مثل «يا صبيّه» و«زحفت يداكِ» و«في منزلي»، وكذلك بقصيدة عامية هي أقرب إلى أجواء الرحابنة في عمقها وجمالية سهلها الممتنع: «شو قولكم؟ هيهات/ لمّن علينا/ تلال سودا بتهبط العتمات/ ويهبط علينا من الجبال الريح/ والثلوج كفان بيضا/ تختفي وتلوح/ هيهات يا رفاق العمر هيهات/ نحضى بكوخ وزاد وحرامات/ ناكل ونسند راسنا ونبات/ عندك مضافه بابها مفتوح/ للّي بيجي وبيروح/ شو قولكم قديش إلنا حباب/ غابوا وما رجعوا رجعة الغيّاب/ رح تلتقوا...وهونيك لما بتطل/ بيعرفوك الكل/ من دعستَك/ من دقتك عالباب».

0 تعليق

التعليقات