تمكنت فرقة «مياس» اللبنانية من الفوز بلقب America›s Got Talent، بعد أداء مميز وعروض مبهرة قدمتها طيلة مشاركتها في البرنامج الأكثر شهرة في أميركا والعالم. «مياس» أسسها مصمم الرقصات اللبناني نديم شرفان عام 2019، وخطت الفرقة المؤلفة من 36 شابة راقصة، تراوح أعمارهن بين 13 و25 عاماً، خطوةً جبارةً لدى حصولها على لقب Arab›s Got Talent (النسخة العربية من البرنامج).أخذت الفرقة اسمها من غزال عربي بقدّ ممشوق «ميّاس»، وهي كلمة مشتقة من كلمة «الماس»، وأريد لها خلال تسميتها أن تعبّر عن غموض المرأة العربية. ويصر مؤسسها شرفان على أن تكون أعضاء الفرقة من النساء، وأكد في تصريح سابق أنه «يوجه رسالة إلى المجتمعين العربي واللبناني، حيث لا تستطيع المرأة الإعلان عن مهنتها كراقصة محترفة من دون التعرض للتنمر».
أوصلت «ميّاس» لبنان إلى العالمية في أصعب الظروف التي تعيشها البلاد جراء الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تمر بها البلاد، وللكثيرين الحق في الفرحة. لكن كيف يُمكن قراءة عروض الفرقة فلسفياً وفي سياق خارج عن المشاعر وصرخات النشوة؟ في الواقع بمشاهدة عروض الفرقة، قد تندفع إلى رأسك فكرة واحدة هي «الاستشراق»، هذا ليس اتهاماً أو تقليلاً مِن إنجاز الفرقة، بل مجرد تحليل لعملها الفني.
جادل إدوارد سعيد في كتابه «الاستشراق» بأن الغرب يستخدم الشرق كمرآة عاكسة له، مُتخيلاً أنّنا كل ما ليس عليه الغرب. وأوضح لنا كيف أن هذه الثنائية المتصوّرة التي تفصل بين الشرق الإسلامي والغرب المسيحي، قد تجسدت تقليدياً في الفن مِن خلال مشاهد رومانسية للثقافات الشرقية، مقدمة على أنها غريبة وعجائبيّة وخطيرة في كثير من الأحيان.

عرض «ميّاس» واستخدامها للريش، ولوحة «غراند أوداليسك» المعروفة أيضاً باسم «الجارية» وتفاصيلها ورمزية الريش فيها (الصور مفتوحة المصدر مِن تصميم كاتب المقال)

بالعودة إلى القرن التاسع عشر، قدم الفنانون الأوروبيون المرأة العربية بوصفها صاحبة إغواء ومكائد مُحيرة وحضورها يصنع جوّاً من المتعة غير الأوروبية. على سبيل المثال، لوحة «غراند أوداليسك»، المعروفة أيضاً باسم «الجارية»، وتعود إلى عام 1814 بواسطة جان أوغست دومينيك إنغر (1780 - 1867)، وتصوّر محظية تجلس بهدوء، وتنفض الغبار عن نفسها قليلاً بالريش بينما تَنظر من فوق كتفها إلى المُشاهد بعيون هائمة حيث يتم تعزيز مفاهيم المتعة والجنس من خلال الرمزيات، أبرزها: الريش والعيون. دفعت صور كهذه عموم الأوروبيين إلى تخيل الشرق الأوسط كمنطقة بعيدة للجنس والمُسكرات والتجارب الغريبة المثيرة
تتقاطع رمزية اسم الفريق «مياس» وحتى تصميم العروض الراقصة (العيون، الثعابين، الريش...) والموسيقى المُختارة مع الكتالوغ الاستشراقي بشكل واضح. إنها تمثيل حرفي له، وهنا نعود مرة أخرى لنتوقف أمام مصطلح «تمثيل» في خطاب ما بعد الكولونيالية، حيث تلعب المركزية الأوروبية احتكاراً للتعبير عن الشرق. الرجل الأبيض هُنا مُحرك العرائس، الصانع الحقيقي لما يمثله الإنسان الشرقي (إناثاً وذكوراً)، مُشكلاً الفضاء المعرفي الصامت والفني الصاخب المُتخيل عن الشهوة والخطورة ومتعة المغامرة.
في ساحة التمثيل، حدثت الكثير من دراما العلاقات الاستعمارية. في كل من الغزو والاستعمار، لعبت النصوص والأعمال الفنية دوراً رئيسياً. واستحوذت النصوص الأوروبية (الأنثروبولوجيا والتاريخ والفن) على الموضوع غير الأوروبي ضمن الأطر الأوروبية، التي تقرأ أي مُغاير عنها بوصفه إرهاباً أو تراجعاً في مسار الحضارة.
وفي إطار العلاقات المعقدة للاستعمار، تمت إعادة طرح هذه التمثيلات على المُستعمَرين مِن خلال التعليم الرسمي أو العلاقات الثقافية والفنية الاستعمارية العامة كصور موثوقة لأنفسهم. ويتم تصنيف التمثيلات المتزامنة لأوروبا والأوروبيين في هذا الأرشيف النصي على أنها معيارية. مثل هذه النصوص (أي تمثيلات أوروبا لنفسها، ورؤيتها للآخرين) هي إسقاط لمخاوف ورغبات وأطماع المُستعمِر التي تتنكر في صورة معارف علمية/ موضوعية. أي أن الاستشراق في النهاية هو عملية تكوين خطابي ينتج عنها التمثيل الفني أو الثقافي أو السياسي....
إن التمثيلات الثقافية كانت مركزية في عملية استعمار الأراضي. فالسيطرة على إقليم أو أمة لم يكن فقط عبر مُمارسة القوة السياسية أو الاقتصادية؛ بل كانت هُناك ضرورة أيضاً أن يكون لدى المُستعمر هيمنة على الخيال الثقافي. الاعتقاد هنا هو أن الأدب الاستعماري لم يعبّر ببساطة عن الانشغالات الإمبريالية فقط؛ بل أسهم في صنع وتعريف وتوضيح تلك الانشغالات نفسها. وتم تجنيد رموز الثقافة والفن من قبل الأوروبيين في محاولتهم لفهم عوالم غريبة ومعقدة أسقطوها على الشرق.
خلال الحقبة الاستعمارية، كانت الكتابات الاستشراقية لا تُعد ولا تحصى، ولم تقتصر فقط على القصائد أو الروايات، لكن على النصوص الأكثر وظيفيةً مثل نصوص القانون، وغالباً ما كانت المقالات الصحافية والمجلات الأنثروبولوجية مجازيةً ومليئةً بالإشارات الأدبية. ولم يكن النظام الاستعماري وحده في تعاونه مع الكتابة الخيالية.
أحد الموضوعات الرئيسية التي اهتم بها الفن الاستعماري، هو تمثيل الشعوب الأخرى، حيث يُنظر إلى الشرق والشرقيين من خلال عدسة مواطن غربي له اليد العليا للتلاعب بالشرق وبنائه وإعادة تقديمه. وهؤلاء الغربيون مسؤولون عن الرؤية النمطية والسطحية للمرأة الشرقية في القرن التاسع عشر التي ظلت حاضرة منذ ذلك الحين باعتبارها ممثلةً حقيقيةً لكل الأنواع.
في الأعمال الاستعمارية، يتم تمثيل نساء المستعمرات الشرقية بتناقض الرغبة والازدراء. إنها امرأة شرقية غامضة ومثيرة جنسياً، لكنها غير جديرة بالثقة، إنها امرأة مرغوبة كتعبير مسموح به لموضوع من المحرمات في الغرب آنذاك. تدور حبكة «الحلي الظاهرة» للكاتب ديدرو، والتي كُتبت في القرن الثامن عشر، حول سلطان شرقي يملك خاتماً سحرياً يسمح له بالوصول إلى «أكثر الرغبات والمآثر الجنسية حميميةً» للحريم.
لكن ما الذي شكل الأساس الأصلي لخلق هذا الشرق الأسطوري الجنسي؟ ربما يرجع ذلك جزئياً إلى دراسة الغربيين لـ «حكايات ألف ليلة وليلة»، وهي مجموعة قصص شعبية مشتقة من الثقافات الفارسية والعربية والهندية. لكن عندما قدم المستشرق وعالم آثار فرنسي أنطوان غالان (1646 –1715) ترجمته لكتاب «ألف ليلة وليلة»، والتي ظهرت في اثني عشر مجلداً خلال الفترة التي تراوح بين عامَي 1704 و 1717، أزال جميع الإشارات الصريحة إلى الجنس لأنه اعتبرها غير مناسبة لمجتمعه. ما يعكس أن النص الشرقي بحد ذاته كان انعكاساً لمجتمع أكثر تقدماً وتسامحاً وفهماً لحكايات المغامرات والسحر.
قدمت عروض الفرقة اللبنانية دليلاً آخر على أننا لم نتعاف مِن آثار الحقبة الإمبريالية


خلط الغربيون بين «الشرق الحقيقي وشرق الحكايات». وفي بعض النواحي، أصبحت «ألف ليلة وليلة» نصاً استشراقياً. وعلى الرغم من أن القصص شرقية، إلا أن من قاموا بترجمتها وتحريرها كانوا أوروبيين، وكانوا قادرين على قص أو إضافة هوامش للتأكيد على جوانب معينة من المجتمع الشرقي ككل، ونسائه خصوصاً. لقد كانت تلك الصور هي التي أثرت في التصورات الأوروبية للشرق بشكل عام، ولفتت الانتباه إلى إبقاء الشرقيين بعيداً عن الأوروبيين لمنع الإضرار بالدولة والدين آنذاك.
أصبح جسد المرأة العربية هوساً وتم استغلاله مادياً ونصياً «كموضوع للمعرفة وعنصر في علاقات القوة». والخطاب الاستشراقي ميّز الهيمنة الغربية على الشرق. وفي هذه النصوص، تم «تأطير النساء العربيات وتعريفهن وفهمهن من خلال الإسقاطات والمثبطات والتخيلات الذكورية الغربية للحريم وتقديم تقليد خيالي دائم يعمل على توليد لا نهائي لعالم «ألف ليلة وليلة».
ركزت النصوص الإيروتيكية الاستشراقية على النساء الشرقيات ككائنات جنسية. وفي كثير من الأحيان، تم اختزال النساء بـ «الأجهزة التناسلية»، ونُظر إليهن على أنهن شبقات جنسياً، مُتحدّيات النظام الاجتماعي. وقدمت بعض النصوص الدينية المسيحية (كما الإسلامية) نظرة إلى المرأة بوصفها ضرورية للتكاثر، وحذرت مِن أن غواية الأنثى هي طُعم يؤدي إلى الهلاك، إلى اللعنة.
أخيراً، عروض فرقة مياس ما هي إلا تحيّز فيكتوري معياري، يُقدم المرأة الشرقية وفقاً للرواية الاستشراقية التي صنعتها مئات الأعمال الفنية الغربية خلال الفترة الاستعمارية، فالمرأة الشرقية غالباً ما تُصوَّر عارية أو ترتدي ملابس جزئية، فهي مخلوق نشط للمتعة الجنسية، ويحمل مفتاح عدد لا يحصى مِن المسرات المثيرة الغامضة.
وفي سياق أوسع، قدمت عروض الفرقة اللبنانية دليلاً آخر على أننا لم نتعاف مِن آثار الحقبة الإمبريالية، فقد كانت القوى الاستعمارية مهتمّة بالنشاط الجنسي لأن تنظيمه يسمح بالسيطرة الاجتماعية وبناء هوية ذاتية بأن الغرب هو المرآة الأخلاقية والحديثة لأفريقيا والشرق المتخلّفين. وإذا كان للغرب أن يكون ذكورياً وعقلانياً، فإن الشرق يجب أن يكون غامضاً ومؤنثاً.