«إن أخذَ الموتُ منك شيئاً رُدَّه إليه» (ترجمة دنى غالي ـ منشورات المتوسط/ 2019) كتابٌ يشبه الزُّجاج المعشَّق، محطَّمٌ ومجزَّأٌ وكلُّ قطعةٍ منه جميلةٌ وحادَّةٌ ومؤلمةٌ بحدِّ ذاتها، ومذهلةٌ حين تُجمَع معًا.هل هو شعرٌ، نثرٌ، شعرٌ منثور، مذكِّراتٌ، يوميَّاتٌ، شذارتٌ، اقتباسات؟
في الحقيقة هو مزيجٌ من هذا كلِّه. وإن سبق لك أن عشت تجربة الفقد الكبير (كما تحبُّ إحدى صديقاتي أن تسمِّيها) فستبهرك قدرة كاتبته نايا ماريَّا آيت على الغوص عميقاً في مشاعر الحزن والألم، الفقد والغضب، وكذلك النَّدم، ومدى براعتها في التَّعامل مع مشاعر خامٍ متوحِّشةٍ كهذه.
في الخامس عشر من آذار (مارس) من عام 2015، تتلقَّى الكاتبة نايا ماريَّا آيت مكالمةً تغيِّر مجرى حياتها بالكامل، إذ يُخبرها المتَّصل أنَّ ابنها كارل البالغ خمسةً وعشرين ربيعاً قد رمى نفسه من نافذة شقَّته في كوبنهاغن تحت تأثير أحد العقارات المهلوسة، ليُنقل في إثر ذلك إلى المستشفى، المستشفى نفسه الذي ولد فيه، وهناك يلفظ آخر أنفاسه في المكان نفسه الذي أطلق فيه صرخته الأولى.
لا تلقي نايا علينا بالخبر دفعةً واحدة، بل تعيد رواية تلك اللَّحظات مرَّةً تلو الأخرى عبْر صفحات الكتاب مضيفةً في كلِّ مرَّةٍ المزيد من التَّفاصيل المروِّعة. تبدو طريقتها في تكرار الجمل مثل أمواج بحرٍ تتكسَّر مراراً على الصَّخر صارخةً في كلِّ مرَّةٍ (فقدٌ، فقدٌ، فقد...)، وما يصل إليك كقارئٍ منها هو صدى آلام حِدادها.
«أبكي وأقول: ولكن ما الذي حصل؟ يقول مارتن: إنَّه كارل.
لقد سقط من الشُّبَّاك.
ليلةٌ مليئةٌ بالأهوال، ليلةٌ
مهولةٌ مهولة»
وهي خلال ذلك كلِّه تتلاعب بخطِّ الزَّمن، وتحملنا معها في رحلةٍ عبر الذِّكريات والأحلام واليوميَّات. حيث التَّفاصيل الصَّغيرةُ – كما تعرف كلُّ ثكلى- هي ما يُشعل أصعب الحرائق. «غالباً ما أسمع هذا الصَّوت: لقد فهمت، نَعم: كارل قد مات، الأمر انتهى. والحياة مستمرَّة. وبعدها بساعتين أبكي في مربَّى المشمش، لأنِّي جئت على التَّفكير في مقدار حبِّه لمربَّى البرتقال.... مربَّى المشمش يصير مربَّى البرتقال، والمربَّى يصير أثرًا لزجًا يسحب في طريقه كلَّ شيء. الذِّكريات الحلوة عن كارل تصبح مرَّةً لا تطاق، لأنَّها تؤدِّي بذلك إلى موته».
تحكي لنا عن محاولاتها العديدة للتَّعافي، وعن تجريبها طرقاً مختلفةً، ولكنَّها تعترف - اعترافًا نعرفه نحن الذين أخذ الموت منَّا شيئاً ولكنَّنا لا نفصح عنه - تعترف بأنَّها تخاف أن يكون التَّعافي معناه النِّسيان.
«أخشى أن أنساه. أن أنسى إحساسي بجسده، بصوته، بضحكته. أخاف أن يتلاشى أكثر وأكثر ويختفي يومًا بعد يوم. أن يختفي على إيقاع شفائي. أمرٌ لا يُطاق».
إحدى وسائلها للتَّعامل مع حزنها كانت عبْر قراءتها الكثير ممَّا كُتب عن الموت والفقد ورثاء الأحبَّة على مرِّ العصور. وحين كانت كلماتها تخونها كنَّا نراها تستعين بما قرأته، مقتبسةً عمَّن سبقها في رحلة الألم والفقد. وكأنَّها تقول الموت هو الموت في كلِّ زمانٍ ومكان، ومع ذلك فمن المستحيل أن يتشابه حزنان، وإنَّك مهما حاولت جاهداً أن تُعِدَّ نفسك لاستقبال الألم الذي يخلِّفه موتُ عزيزٍ عليك فإنَّك لن تكون مستعدّاً أبداً.
«أرى وجهي في المرآة، أرى صدري، أرى بطني، أرى جرح العمليَّة القيصريَّة، وأضرب صدري، بطني، ألطمُ وألطمُ بلا رحمةٍ هذا الجسد العاطل، الذي سيظلُّ موسومًا إلى الأبد بولادته».
المساعدة الوحيدة تأتيك ممَّن حولك، حبُّ الأهل والأصدقاء ومساندته لنا في هذه الرِّحلة المؤلمة يساعدنا في العودة إلى الحياة مرَّةً أخرى لنعيش ونتعايش مع كونٍ مليءٍ بالغياب والفقد.
«أصدقاؤنا يبتدعون لنا طقوساً.
وأصدقاؤنا يعتنون بأطفالنا.
وأصدقاؤنا يبقون معنا طوال اليوم، دون حدثٍ يذكر.
ووأصدقاؤنا يُبقوننا على قيد الحياة، بيمنا لا حدثٌ يذكر.
وحدها تلك الآلام اللَّاسعة تحدث.
خلل الزَّمن المتوقِّف. آلامٌ لاسعة.
وأصدقاؤنا ينظِّفون الجرح النَّزف بحذر.
ينظِّفون كلَّ يومٍ كطقسٍ
علامتنا الفارقة غير المرئيَّة».
وكما تتلاعب نايا ماريا آيت بخطِّ الزَّمن، تتلاعب أيضاً بشكل الفقرات والخطوط وأحجامها وكأنَّها وسيلةٌ لتخبرنا بها كيف تفقد الكلمات بعد فاجعةٍ كهذه معناها وصورتها إلى الأبد، وكيف يفكِّك الفقد معماريَّة النَّصّ. «ليس هناك لغةٌ ممكنة، اللغة ماتت مع طفلي، ليس بمقدورها أن تكون وافيةً، ليست فناً، عصيَّةٌ، فنٌّ ملعون، أتقيَّأ على فنِّ بناء الجملة،.... أعترف أنَّني أكره الخطَّ، لا أريد الكتابة بعد الآن».
وكشخصٍ مكبَّلٍ بحزنه الخاصِّ وجدتُ كتابها هذا – مع كلِّ ما فجَّره في داخلي من حزنٍ وألم - باعثاً على الرَّاحة بطريقةٍ ما، إذ تعلَّمت معه من جديدٍ درساً أتعلَّمه مرَّةً تلو الأخرى، أنَّ الوقت والحزن لا يسيران بطريقةٍ خطِّيَّةٍ بل يتَّبعان مساراً دائرياً، وأنَّه ليس علينا إيجاد نهايةٍ للحزن بل أن نعود به إلى البداية.
«إن أخذ الموت منك شيئاً
فردَّه إليه
ردَّه إليه
هذا الذي حصلت عليه من ذلك الميِّت
حين كان ذلك الميِّت حياً
حين كان ذلك الميِّت قلبَكَ
....
هذا الذي حصلت عليه من ذلك الميِّت
حين وقفتما تحت المطر تحت الثَّلج
تحت الشَّمس وذلك الميِّت كان حياً
أدار وجهه نحوك
كما لو يودُّ سؤالك عن شيء
لم تعد تذكره وهو
قد نسيه أيضًا وذلك
أبديٌّ
أبديٌّ منذ هذه اللَّحظة».