أتذكر الأيام الأخيرة من كانون الأول (ديسمبر) عام 2006.كنت على اتصال دائم بأسامة، وتواعدنا أن نلتقي في بداية عام 2007. كان يشعر ببعض التعب، ويشدد أن نلتقي قريباً. وقبلها بأشهر، كانت هناك مداولات كثيرة حول كتابه الأخير، فصول وراء فصول، وحوارات حول هذا الشكل من الكتابة، وفرحه بإنجازه. الفرح الذي يقف الموت على حافته ليأكلَ منه، ويُؤكل منه، أيضاً.
كانت أيام موسم البيع بالنسبة للغاليري، واتفقنا أني سأكون عنده صباح يوم 1 كانون الثاني (يناير). بالفعل، صباح يوم 1 كانون الثاني 2007، وصلت إلى شقّته في «فيصل»، كان بصحبتي عبد العزيز السباعي. لم أجده، وعرفت أنّهم قد نقلوه إلى المستشفى، لا أتذكر من قابلته هناك، في هذا البيت الخاوي الذي سُحبت منه حرارة الضيافة.
ذهبت إلى المستشفى، ندخل ونخرج عليه باستمرار، وسط عائلات المرضى المستضعفين أمام قوة المرض، والموت المعلّق في جنبات المستشفى وزواياها. لم نتبادل الكلام، وسط هذا الجمهور الكبير سوى كلمات التشجيع، والنظرات المشحونة من بعيد.
أتذكر الشعور المقبض الذي كنت أخرج به في نهاية اليوم، بعد انتهاء موعد الزيارة، أتذكر مفاجآت تدهور الحالة التي كنت أسمعها من سهير، زوجته، وانعكاسها على ملامح وجهها، وعلى شكل حركتها التي فقدت مركزها، وعلى الأرقام التي تترجمها، سواء في جهاز المناعة، وغيرها في الكلى ووظائفها، ونسبة كذا وكذا، يتحول الجسم إلى مجموعة قراءات شديدة الدلالة والتأثير.

كانت صورته وهو على الكرسي، بالنسبة إليّ، الصورة الرسمية للتأبين

أتذكر المقهى المجاور للمستشفى، الذي كنا نأخذ فيه نحن، أصدقاؤه، راحة من الموت. كانت هناك صورة مرسومة لأم كلثوم، غالباً لو صحّت ذاكرتي، وجدرانه التي كانت مطليّة باللون الأخضر الغامق، أو الذهبي المترب. أتذكر حواراتنا التي كانت تتنسّم رائحة الموت. بالرغم من هذه الرائحة، إلا أن الكلام أيضاً بيننا كان فيه حسّ النجاة من الموت. لذا كانت قياسات كثيرة تدور بدواخلنا وبدون أن نتصارح بها.
أتذكر أيضاً أننا سهرنا، نحن مجموعة الأصدقاء الملتفين حول سريره، في أحد هذه الأيام في أحد المطاعم في وسط البلد. كانت هناك دائرة تتكون، تفصل عنها هذه الخلية المستقلة. كان هناك شبق عارم بالحياة والموت معاً، نأكل بنهم، نشرب بنهم، ندخن بنهم، نضحك بنهم، كأن النهاية وشيكة. النهاية لا الموت، ولكن إحدى حقائق الحياة، شديدة التألق، شديدة القسوة. كان هناك من يبسط أمامنا، وفي دواخلنا، هذا الوجه الاستثنائي للنهاية والحياة معاً. كانت السهرة بضحكها وعبوسها، بفرحها وبكائها، علامات هذا الانفصال الخلوي لأحد أعضاء المجموعة.
في اليوم الثالث، نُقل أسامة إلى مستشفى آخر في وسط البلد متفرّع من «شارع محمود بسيوني». أتذكر جلسته على الكرسي في انتظار إجراءات الدخول إلى غرفته، كان صامتاً أو مذهولاً. أحسست بأنه بهذه الجلسة على الكرسي المتحرك أكثر حضوراً من وضعه وهو على السرير. انتابني بعض الأمل، مع كثيرين ممن كانوا يترددون عليه.
كانت صورته وهو على الكرسي، بالنسبة إليّ، الصورة الرسمية للتأبين. ظل تقريباً لساعتين، ندور حوله نشد من أزره، أو نراقبه من بعيد. كأن هناك حرماً مقدساً مضروباً حول الكرسي، لا تقترب منه إلا بحساب، ولمدة قليلة، ثم تبتعد. المفارقة أنّه ظل هذه الفترة الطويلة هادئاً، ومطرقاً برأسه قليلاً للأرض.
مثلما تقابل نجماً صدفة، خارج قاعة العرض، في فسحة التدخين، في العرض الأول لفيلمه، أو نجماً يجلس بجوارك على الطائرة. تقول في سرك إنّه «هو»، وليس غيره، الذي يجلس على هذا الكرسي أو يدخن خارج قاعة العرض... توقع الموت الوشيك منح جلسته على الكرسي أبديتها ولمعانها الرمزي. كان أسامة، هو النجم في فسحة التدخين، أو شريك المقعد المجاور في السفر، الذي لن تراه بمجرد انتهاء الفيلم، أو رحلة السفر. لكنه حتى هذه اللحظة في المستشفى، كان لا يزال «هنا» و«الآن».
أتذكّر الطابور الذي وقف خارج غرفته الزجاجية ينتظر لحظة الدخول إليه، والسلام عليه، ثم الخروج سريعاً. وقفت كغيري في الطابور، لكلّ منّا دقيقتان، أو ربما دقيقة، بناء على أوامر الطبيب. كنت قد قضيت ثلاثة أيام في القاهرة بالملابس نفسها، لأني كنت مسافراً ليوم واحد، كي أطمئن عليه وأعود مباشرة، ولكن استمررت لثلاثة أيام، بملابس تشربت العرق والتراب معاً، أقوم وأنام بها، وبذقن غير حليقة، وغيرها من إشارات التيه الوجداني.
دخلت عليه، تحدثت بثقة، كي أخفي عنه جزعي، وبلهفة صوت محبوس. وعدته أنه سيشفى، تكلمت أكثر عن الثقة في الحياة، وفي القلب. وربما كنت أعني الحياة التي تغادرنا ونتمسك بأطراف ذيلها. قلت له في ما قلت إنّه سيكون بخير، وإنّ حدسي يقول هذا، وعلامة حدسي أنني فقط أشعر باطمئنان، قلت له في ما قلت، إنّني لم أقرر السفر، إلا وأنا مطمئن بأنه سيكون بخير، وبأنه سيعبر بهذه الأزمة. وقلت له في ما قلت إنّني سأتركه وأسافر ليومين، في رعاية هذا الشعور المطمئن. كان شعوراً مطمئناً نعم، ولكن، أيضاً، يقف الموت على حافته ليأكل منه، ويأكل هو من الموت.
كان ينظر إليّ ويبتسم بهدوء رائق، تعدى الألم، والأمل معاً، وربما تعدى الصدق. ربما كنت أكذب وأتكلم من وراء قلبي، ولكني لم أكن أعرف هذا، لأمنحه الثقة في الحياة. لم أكن أملك سوى هذا الصدق الأجوف.
أتذكر أننا سلمنا على بعضنا بالأيدي ــ أو ربما وضعت يدي فوق يده المبسوطة بسبب أنابيب المحاليل؛ كأنه عناق رمزي.
مضيت إلى الإسكندرية وعلى وعد بأني سأعود خلال يومين، على الأكثر، آتي بملابس أخرى، وهواء جديد، وبتفاؤل طازج، لنكمل رحلة المستشفى ثم عودته إلى البيت، كأننا نحتفل بالسنة الجديدة، بأثر رجعي، كما اتفقنا، ونعود بالزمن لما قبل 4 كانون الثاني 2007.
في اليوم التالي، تلقيت مكالمة من مجاهد الطيب، باكياً ومفجوعاً، يخبرني بوفاة أسامة.
تبرز صورة الأجيال الجديدة التي تسعى إلى اقتناء كتبه، والحديث عنه


أتذكر أنني خرجت بالتليفون من الغاليري إلى الشارع لأسمع خبر الوفاة وسط ضوضاء الشارع، وسط هذا الجمع الكبير من حيوات الناس والعربات. وددت ساعتها لو أقذف بالتليفون وخبر الوفاة وسط نهر الحياة المتسارع أمامي، ليعيده إليّ، مرة أخرى، مغسولاً خالياً من الصدمة وفجيعة الفقد.
أتذكر الصورة التي نقلتها إيناس، أخته، عندما دخلت عليه قبل الوفاة مباشرة، عندها رمى بمنديل ورقي، كان قد كوَّره في يده، في سلة المهملات البعيدة. ربما الكرة الورقية سقطت بعيداً عن السلة، أو دخلت فيها، وأصابت هدفاً، وخرجت روحه بعدها مباشرة.
تصنع ذاكرتي هذه الصور دائماً في هذه الأيام الأخيرة من كانون الأول، والأولى من كانون الثاني، تبرز «سلة الموت والحياة»، «سلة الأمل»، تبرز صورة المستشفى، والكرسي المتحرك، وربما كان كرسياً عادياً، وتبرز صورة سهير وحديثي معها حول أسامة، تبرز صورة إيناس أخته في شادر عزائه في عمر مكرم، تبرز صورة علاء أخيه، ووالدته، تبرز صورة كل أصدقاء أسامة الذين أحاطوه بحب ورعاية في كل حركة يتنقل بينها، حتى وصوله إلى القبر تحت الشجرة الوارفة في قريته، تبرز صورة الأجيال الجديدة التي تسعى إلى اقتناء كتبه، والحديث عنه.
قررت هذا العام، أن أتذكر أسامة ليس في يوم وفاته، لكن خلال هذه الأيام، قبل النهاية بقليل، التي كان لا يزال فيها، حياً، بيننا. الحياة في لحظاتها الملتاثة، المفتوحة على كل الاحتمالات. اللحظات التي نفردها بعدها على العديد من السنين، كي نوفي كل احتمالاتها. كل لحظة كانت تحمل كدمة في وجه الحياة والموت معاً، كل لحظة تحمل بذرة لشيء يستمر في الذاكرة ولا يغيب، إلا بغيابنا، نحن أصحاب الذكرى، وبمرور الأيام نصبح أيضاً ذكرى، فيتوالد هذا الشيء الحي، ويستمر، وينبت، ويُعمِّر ذاكرة إنسانية كبيرة بهذه الكدمات الروحية للحياة والموت معاً.

* شاعر وروائي مصري