قيل لحكيم: ما الفتنة؟ قال: أن ترى بعينٍ واحدةٍ، وتحاسب كما لو أنّك مبصرٌ طلق. أمس، كان يوماً عصيباً في «معرض بيروت العربي والدولي للكتاب» الثالث والستين. كانت الخطّة ــ حسب الظاهر ــ أن يغلق المعرض أبوابه، كونه «إيرانياً» وفق ما قالت إحدى «الناشطات» التي حوّلت وقولبت حدثاً عادياً، يقع في أي مكان إلى «حرق ساحرات» و«حدث جلل» يستوجب «الويل وعظائم الأمور». قبل ذلك؛ وعلى مدى ثلاثة أيام كاملة، مارست قنوات «الإبتزاز» (التلفازية، المكتوبة والمسموعة) كمّاً كبيراً من «التهويل» حول ما يحدث في المعرض. «إيران تحتلنا»، «معرض إيران في لبنان»، «لسنا طالبان ولن نكون»، «أوقفوا المهزلة: أوقفوا المعرض الإيراني»... عناوين كثيرة تناولت الخبر نفسه، ضمن أجندة واحدة. فلنبسّط الصورة أكثر ولنحمل قلماً وورقة لتسجيل التفاصيل: في البداية، يشارك في المعرض عدد لا بأس به من الدور الإسلامية، المحسوبة بشكلٍ أو بآخر على «محور المقاومة». هذا أمرٌ لا لبس فيه، ولا خلاف عليه. فهذه الدور هي «للكتاب» وتمتلك كل «الشرعية» و«الحق» للوجود في المعرض الكتاب، شأنها في ذلك شأن أي دار نشر. في الأعوام السابقة، كانت دور نشر الدول والممالك الخليجية حاضرة وبقوّة (هذا العام لم تشارك باختيارها). وجود ليس جديداً أو غريباً أو مستهجناً. بالتالي ما هي الحكمة من «تحويل» الأمر إلى «حدث»؟ لا أحد يعلم سوى «قنوات الإبتزاز» ومشغّليها. النقطة الثانية: غياب بعض دور النشر. وفي هذا لا يتحمّل أي من الدور المشاركة «وزر» تلك المشكلة. امتنعت بعض الدور المعروفة عن المشاركة لخلافٍ حسبما قيل بينها وبين «النادي الثقافي العربي». فهل يكون المنطق أن يغلق المعرض أبوابه، أو تمتنع الدور الباقية عن المشاركة فيه فقط لأنّ بعض الدور ارتأت عدم المشاركة لأسبابها الخاصة؟ وهل تلام الدور الباقية على المشاركة، فقط لأنّها تريد أن «ينجح» مجهود ثقافي مرتبط بمدينةٍ منهكة متألمة كبيروت هذه الأيّام؟ على الجانب الآخر، هناك دور كبرى ــ مثل «رياض الريس» و«أوال» و«مؤسسة سعادة الثقافية» ــ موجودة في المعرض وتحقق نجاحاً ولها في الثقافة باعٌ كبير، يتم تجاهل وجودها لأنّ ذكرها لا يخدم واصفي الحدث بـ «الإيراني». في الوقت نفسه، هناك دور كثيرة لا تحمل أي صبغة كتلك الآتية من سوريا أو مصر.
أكثر من هذا، ما هو الاحتلال الإيراني الذي يتحدّث عنه بعضهم؟ هناك جناح رسمي لإيران في المعرض، وهذا طبيعي! وهو مشاركٌ معتاد في معظم معارض الكتاب في بيروت، والعواصم العربية الأخرى. وهذا شأن معظم سفارات الدول العربية والغربية، التي غاب بعضها هذا العام لدوافع سياسية ومن دون مسوّغات منطقية. فهل يلام الإيرانيون على مشاركتهم المعتادة؟ ماذا عن «سيطرتهم» على المعرض إذاً؟ هل صورة قاسم سليماني الموجودة في جناح «دار المودّة» (المعنية أساساً بتوثيق سيرة الشهداء) هي المشكلة؟ ألم تكن صور الملك السعودي أو سلطان عمان أو ملك البحرين أو سواهم من القادة العرب معروضة في السابق؟
ألم يعتد الجمهور اللبناني على اتساع أطيافه الثقافية، وجود هذه الصور، لا في معارض الكتب فحسب، بل في الشوارع كذلك؟ أليس هذا هو «التنوّع» اللبناني؟
فماذا حصل؟ وكيف حصل ما حصل؟ شابٌ متهوّر مندفع يدخل إلى إحدى الدور المشاركة في المعرض، ويبدأ بالطرق على الصورة هاتفاً بسخط وغضب «بيروت حرة حرّة... إيران طلعي برا». يكاد يكون الهتاف مبرراً، لو أنَّ الجيش الإيراني والباسيج والسيباه وسواهم يحتلون العاصمة. أما في بلدٍ فيه الأميركي والـ USAID ومؤسساتها علناً، فهذا أمرٌ لا يثير إلا السخرية والتسخيف. بلدٌ يطالب بعض سكانه رئيساً ضعيفاً في بلاده كإيمانويل ماكرون أن يأتي لحكمهم. يأتي بعدها شابٌ موجّه ليطلب من إيران الخروج، لتصبح «بيروت حرّة». الأمرٌ مضحكٌ بالفعل.