«للحبّ لغاتٌ لا تنتهي». لقد قالها مولانا جلال الدين الرومي: «گر چه تفسیر زبان روشنگر است / لیک عشق بی زبان روشن تر است». رغم أنّ تفسير اللغات يحملُ الوضوح، غير أن الحبّ أوضحُ من دون اللغات. وما الفنُّ والجمالُ إلا تجلياتٍ للحبّ وللعشق الإلهي الذي يرفع الإنسان إلى الكمال.
«أيام الفجر الثقافية» احتفالية واعدة على الصعيد الثقافي رغم كل الجفاء والقسوة المفروضة على بلدينا، احتفاليةٌ أردنا أن تجمعَ نخبةً من الموسيقيين والفنّانين والمثقفين في أمسياتٍ زاخرة بالفنّ والجمال والعزف على وتر المحبّة والصداقة والقيم الإنسانية، أمسيةٍ تحملُ رسالةً ربما يكونُ صداها أعلى من أصوات البشر والأحداث والسياسة والمجتمع، يعلو صداها ويرتفع عالياً رافعاً معه رسالة التعايش التي تمثّل الحاجة الأبرز للعالم اليوم.
تاريخٌ زاخرٌ بالتبادل الثقافي بين إيران ولبنان منذ قرون، منذ إبرام الاتفاقية الثقافية بين البلدين التي كانت إيران حينها ثاني بلد سارع إلى هذه المبادرة بعد نيل لبنان استقلاله عام 1943، وإلى إبرام اول اتفاقيّة ثقافية سارية المضمون ليومنا هذا ضمن سلسلة الاتفاقيات الأخرى.
نفتتحُ هذه الرسالة، ونفتتحُ هذه الأمسيات، ونوليها آذاننا وعيوننا لنحلّق في سماء الثقافة والفنّ، ولنقول إنّ الفنّ لغةٌ عالميةٌ بل إنسانيةٌ متعالية، تتفوقُ على كل فروقات اللغة والانتماء.
نلتقي اليوم، لتتضافرَ وتتداخلَ مواهبُنا بعدما جمعتنا ووحّدت صفوفَنا المقاومة والإيمان بالقضيّة، بين الوتر الفارسيّ والوتر العربيّ، وبين الكلمة الفارسيّة ونظيرتها العربية، يجمعنا روح الشعر وروح الكلمة وروح اللحن وروح المعاني التي ندركها جميعًا ولا تعبّرُ عنها اللغات. يشهدُ على هذا التماهي والتلاقي تاريخنا الزاخر بالقامات التي قادت عملية التبادل الحضاري، نستحضرُ اليوم ونتذكّر تلقائيًا أسماء برزت في تاريخنا الأدبي والفني والجمالي، من شعراء العرفان والتصوف الفارسي، الفردوسي وسعدي وحافظ والرومي ونظامي الكنجوي الذين أصبحوا مدارس بكل اللغات عبر العالم. من رموز الفكر والعلم والدين والفلسفة، الذين لمعت أسماؤهم في سماء العالم فكانت جهودهم خدمةً للبشرية جمعاء، من أمثال ابن سينا والفارابي وسيبويه والزمخشري، العلامة الطباطبائي، والعلامة محمد تقي جعفري، والشهيد مطهري وغيرهم الكثيرين، من الموسيقيين الذين صنعوا مدارس فنية وخطاطين ورسامين مينياتور مثل المبدع محمود فرشچیان، علي أكبر صادقي، حسين زنده رودي وكثيرين. أحاول استحضار الأسماء لكن لكثرتها أختصر وأختار من القديم والمعاصر بعض الأسماء. لكن القائمة طويلة لا تنتهي، من الأسماء التي أثّرت بالعالم ووصلَ صداها إلى العالم العربي وترجمت أعمالها وانتشرت أفكارها ورؤاها الجماليّة والفنية والعلمية عبر البشرية فازدادت الحضارات غنىً.
الفنّ والثقافة بحرٌ من قطراتٍ تجمعها الحضارة الإنسانية ممّا أتاحه الله للإنسان من معارف وعلوم وغذاء فكري وروحي. الفنّ لغة الروح بكل ما يوظفه في التعبير من موسيقى وشعر ورسم ونحت وتمثيل وغير ذلك. فكيف إذا اجتمع الفنّ والثقافةُ في محفلٍ يحييهِ رواد الأدب والموسيقى ونخبة المثقفين والفنانين.
إنّ الثقافةَ هي مرآةُ حضارة البلدان وهويّةُ الشعوب التي من خلالها يُقاسُ التقدم الفكري والمعرفي والنموّ الحضاري. اليوم، نحيي الثقافة في أيام الفجر وواجبُنا الإنساني يحتّم علينا أن نحتفيَ بها كلّ يوم، فالثقافةُ يجب أن تكونَ أسلوب حياة ونمطَ عيشٍ للشعوب من أجل التحرّر وتحقيق السيادة والاستقلال الحقيقيّين لأوطانهم.
هنا لا بدّ من أن أوجه تحية إجلالٍ وتقدير لوزير الثقافة اللبناني القاضي المثقف الدكتور محمد المرتضى ووزير الثقافة والإرشاد الإسلامي الإيراني الدكتور محمد مهدي إسماعيلي لرعايتهما واحتضانهما لهذا الحدث الثقافي المشترك، ودعمهما لفعاليات هذا المهرجان. وأرحب بكل الضيوف والفنّانين الذي قدِموا من إيران لقول كلمة السلم والمحبّة والأخوّة والتسامح، ولرفع شعار التعاطف والتعايش رغم الظروف والمحن والتحدّيات في بلداننا التي تأبى المذلّة وتتطلّع إلى أوطانٍ تحيا بكرامتها واستقلالها وأصالتها.
أختتم كلمتي ببيتٍ للشيخ الأجلّ سعدي الشيرازي:
أيّامٌ قليلة ويغمركَ الترابُ فلا تحزن
قم واشدو فرحًا أيها العاشقُ الجذلان
برو شادی کن ای یار دل افروز
چو خاکت می خورد چندین مخور غم

* المستشار الثقافي الإيراني في لبنان