بعد سنتين من الصراع مع المرض، انسحبت منى السعودي (1945 ــــ 2022) أمس في بيروت التي اصطفتها خيمتها الأخيرة. النسوية العنيدة التي لا تساوم، والنحّاتة التي تعتبر من روّاد النحت التجريدي في العالم العربي، والشاعرة الأردنية، تعتبر وجهاً من وجوه الحداثة العربية، وشاهدة على زمن نغل بالأفكار والتيارات والنقاشات الفكرية والثقافية والإبداعية والسياسية. سيرتها مرآة لحقبة مفصلية في هذه البقعة من فلسطين التي أحبّتها حباً عظيماً وصولاً إلى لبنان. منذ الصغر، تآلفت مع الحجر، أحّبته، نطّقته، هي التي تفتّحت عيناها ووعيها على الآثار الرومانية بالقرب من بيتها في عمان. منذ طفولتها، كوّنت علاقة مع الحجارة والصخور والمنحوتات، فنحتت أول أعمالها منذ بلوغها سن العشرين، وأكملت دراستها (درست النحت بالحجر) في مدرسة الفنون الجميلة في باريس الستينيات، زمن الاحتجاجات الطلابية والتحرّر والأفكار الثورية التي انخرطت فيها بكل كيانها. قبل ذلك، كانت قد قدمت أوّل معرض لرسوماتها عام 1963 في «مقهى الصحافة» في لبنان، حيث تولّى الفنانان الكبيران ميشال بصبوص، وحليم جرداق، تقديمها للوسط الثقافي، فتعرّفت إلى أنسي الحاج، وأدونيس، ونزيه خاطر، وبول غيراغوسيان وغيرهما من الوجوه التي صنعت حداثة بيروت الشعرية والفنية والنقدية. أولى منحوتاتها كانت عام 1965 وكان موضوعها الأمومة. كرّت سبحة معارضها عربياً وعالمياً، ووجدت منحوتاتها طريقها إلى أهم المؤسسات والمتاحف الفنية في العالمين العربي والغربي. اشتهرت بمنحوتهاتها الحجرية، التي تستكشف العلاقة بين المادة الطبيعية والشكل الحديث، إلى جانب توليدها الحركة في الأشكال الأساسية عبر التكرار، والتنويع في أبعادها أو تقاطعها مع بعضها. الشعر في مسيرة منى السعودي، سار بمحاذاة النحت، اندمجا، تعانقا حتى استحالا واحداً. من أعمالها الشعرية «رؤيا أولى» (1970) و«محيط الحلم» (1993)، إلى جانب كتاب «أربعون سنة في النحت» (2007). القصائد وجدت طريقها إلى أعمالها الفنية، هي التي أنجزت رسومات مستلهمةً من أعمال محمود درويش، وأدونيس وسان جون بيرس. وقد وصفت في إحدى مقابلاتها بأنّ عمرها «اقتصر على صداقة الحجر لأنه سفر إلى اللامرئي وجسد للشعر». وكانت غاليري «لوري شبيبي» التي تمثل الفنانة، أوردت على حسابها على انستغرام أمس: «بحزن عظيم، نتذكّر منى السعودي. شخصية جامحة، فنانة عظيمة، نحتت الحجر على مدى أكثر من ستين عاماً. كانت قوة من قوى الطبيعة».