ما الذي يجعل «فرحة» (2021) مميّزاً من بين كل الأفلام العربية والأجنبية التي تكلّمت عن فلسطين والنكبة؟ معظمنا يحبّ الأفلام التي تقدّم العواطف كما هي، بحقيقتها الخالصة. لكن العواطف في «فرحة» ليست عواطف مجرّدة، ليس هناك لعب على المشاعر الساذجة، وليس فيلماً يقدّم لنا الحبّ والحياة والحرب وفلسطين والنّكبة بسطحيّة عاطفيّة. في «فرحة»، تنتظم العواطف المعقّدة وتتحلّل المشاعر المتشابكة. تتلاقح الأحاسيس بينما تجثم الأفكار في لغة سينمائية تحبسنا تكسرنا وتجبرنا على المضي قدماً. بسلاسة، أدخلتنا المخرجة الأردنية دارين ج. سلّام في فيلمها الطويل الأول في كل هذه التفاصيل وفي تاريخ فلسطين وعالم فرحة.

بينما تحمل أفلام كثيرة أسماء أحد أبطالها (خاصة هذه السنة في السينما العربية)، يبرز «فرحة» انتقاء الاسم كعنوان، شيئاً أعمق من مجرّد شخصيّة رئيسية. فالفيلم امتداد لهذه الشخصيّة: الألوان، الأزياء، الطعام، الروائح، الصوت، اللّهجة. كل التفاصيل تشبه فرحة. الفيلم هو الحياة اليومية التي لا تتوقّف عن الدوران، التي نشعر بانقضائها في ثوانٍ خلال حيويّة لحظاتها ثم فجأة نشعر بجمودها في الأزمات الميتة أو اللّحظات العالقة. فرحة ليس مرحلة، لكنه صخب الحياة وكسرة النكبة. يبتعد فيلم دارين ج. سلّام عن الميلودراما، عن المواقف الغبيّة في الحرب أو اللّحظات السطحية. إنها قصة حياة في عمقها، مع تقلّباتها، مع الفرح والحزن وضياع البيت والقرية والمدينة والبلد. فرحة امرأة، لكنها ليست عادية، لا تنسى، تفرض نفسها، فرحة أكثر من امرأة على الشاشة وأعمق من عنوان فيلم. فرحة دخلت فتاة وخرجت امرأة تعيش بيننا، صدى صمتها وخوفها وكبريائها وانكسارها لا يزال يُسمع من يوم النكبة إلى الآن.
إذاً من هي فرحة هذه؟ فرحة (كرم طاهر) فتاة فلسطينية تبلغ 14 عاماً. في عام 1948، حاولت بجهد إقناع والدها (أشرف برهوم) مختار قرية صغيرة في فلسطين، بإرسالها للدراسة في المدينة. عندما يقبل الأب أخيراً، تهجم القوات الإسرائيلية على فلسطين والقرية وتبدأ النكبة. لحماية ابنته، اختار الرجل أن يخفيها داخل قبو البيت، يحبسها في الغرفة الصغيرة، ويبني حائطاً، واعداً بالعودة بمجرد عودة الوضع إلى طبيعته. في الجزء الأول من الفيلم (مبني على قصة حقيقيّة)، أظهرت لنا سلّام عادات فلسطين وقراها، بيوتها وأفراحها ونساءها وأطفالها ورجالها. في الجزء الثاني نبقى محبوسين مع فرحة داخل القبو، نسمع النكبة ونتوق للخلاص.

يبتعد فيلم دارين ج. سلّام عن الميلودراما


في الجزء الأول من الفيلم وفي طريقنا إلى قبو فرحة، نشعر بأن شيئاً على وشك الحدوث، جميع القرائن تعطي تحذيرات بأنّ شيئاً كبيراً سيحدث. تمكّنت كاميرا سلّام من بث التوتر ببعض التفاصيل البسيطة من دون استخدام الشاشة المشحونة. تولّد سلّام التوتر منذ البداية: الجنود الإنكليز يغادرون القرية، والد فرحة يتحدّث مع الفدائيّين، وهمهمة هنا وهناك. مع بدء النكبة، وحبس فرحة، اشتد التوتّر وأصبح الفيلم قصّة بقاء ومراقبة. ومن هنا، من خلال الشّقوق الصّغيرة، تصبح فرحة أعيننا وأذنينا لنرى ونسمع الفظائع التي يرتكبها الإسرائيليون. في دقائق لا نهاية لها، نجلس مع فرحة في القبو مربكين وخائفين ومحبوسين، ومع بعض الوميض نشعر ونسمع أن هناك، خارج الغرفة الصغيرة، نكبة لا نهاية لها. نخاف عندما تخاف، ونرتعش عندما ترتعش، نريد الخروج ولكننا خائفون مثلها، نخاف عليها من الإسرائيليّين ولكن نريدها أن تطعنهم بخنجرها الوحيد.
من دون الوقوع في العبثيّة والفوضى غير المبرّرة، بنت سلّام فيلمها على عنصريَن رئيسيَّين: الضوء والصوت اللّذان يعكسان حالة فرحة المحاصرة بلا حول ولا قوّة مجبرة على الشعور بطفولتها التي تحتضر. فقط من خلال هذين العنصرَين، يمكن لنا ولفرحة الحصول على فكرة ما يحدث في الخارج. «فرحة» يكتب التاريخ من جديد، من دون أهوال حرب ودماء وأشلاء، فقط تظهر وحشيّة إسرائيل بعيون البراءة. «فرحة» بثّ الرعب والتوتر عبر تصاعد الأحداث وصخب صوت النكبة. إنّها الفوضى وضياع البلد بدون أي منفذ أو منقذ. تلمس سلّام لهيب الجحيم بدون أن ترينا إياه، فتصور وحشية جنود في رقصة مميتة تشوّه الأرواح وتصهر الأجساد لتحوّل فلسطين حمماً من اللّحم والعرق والدم التي نشمّ رائحتها المقيتة إلى اليوم. «فرحة» اختصر حياة فلسطين، من الولادة إلى الطفولة فالشباب والزواج والولادة والموت. بعد الحرب والموت والنكبة، أخذتها سلّام إلى الصمت، لتفتح لنا الباب ليس للبكاء أو النحيب على فلسطين، بل للتفكير في الطريق الذي سلكه هذا البلد، وما يمثل اليوم في عالمنا العربي.