«إذا تخلّينا عن فلسطين تخلّينا عن أنفسِنا»«إن حريتنا في جنوب أفريقيا غير مكتملة بدون حرية فلسطين»

الأولى هي آخر ما قاله سماح إدريس، والثانية جاءت على لسان أيقونة النضال ضد نظام التفرقة العنصرية في جنوب أفريقيا، نيلسون مانديلا.
وسماح «ضحك» عليّ، كما نقول بالعاميّة الفلسطينيّة، أي غشّني واستغفلني على غير عادته عندما أرسل قبل أسبوع من رحيله رداً على رسالة صوتية كنتُ قد أرسلتها له قبل شهر، أي فورَ سماعي نبأ مرضه اللعين، حيث قمتُ بغناء أغنية بصوتي للشاعر عبد الرحمن الأبنودي «يا عيني على الولد». وأضفتُ أنني أعده بمجرّد خروجه من المستشفى أن أعمل على الانتهاء من مقالات كان قد طلبها مني. فقام بالردّ عليّ برسالةٍ صوتية غنّى فيها مقطعاً من أغنية أم كلثوم «راجعين بقوة السلاح»، واستبدل «السلاح» بكلمة المقاطعة. وهكذا ابتلعتُ الطُّعم الذي رماه لي وقمتُ بإبلاغ المحيطين بي أن سماح عائدٌ بقوة! وبمجرد سماعي خبر رحيله، أردت أن أعود إلى تلك الرسالة الصوتية لكنني لم أستطع. علاقتي الشخصية بسماح بدأت عام 2009 عندما تواصل مع صديقنا المشترك عمر البرغوثي، أبرز نشطاء حركة المقاطعة (بي دي أس)، حيث أراد أن يوضّح موقف الكاتب الأميركي نورمان فينكلستاين الذي اختلفنا معه في ما يتعلق ببيان مسيرة «غزّة نحو الحرية» التي كنا نعدّ لها مع مجموعات تضامن دوليّ من جميع أنحاء العالم. ولم يكن موقفي متناغماً مع موقف سماح، ولكن كانت بداية لعلاقة فيها الكثير من التفاهم والتوافق ولا أبالغ إن قلتُ بأنني، بأنانيةٍ مُفرطة، كنتُ المستفيد منها، وقد استمرت حتى آخر لحظة في حياته. هل هناك أفضل فكرياً وثقافياً وسياسياً من أن تتعرّف إلى سماح إدريس عن طريق عمر البرغوثي وهما ضلعا حركة المقاطعة عالمياً وعربياً! مع خلوّ الساحة السياسية الفلسطينية من توجهاتٍ مبدئية تقوم على أساس التمسّك المبدئي بالحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني وتغلّب ما يُدعى أنها مواقف «براغماتية وواقعية»، وتهاوي القوى اليساريّة والقوميّة، إما تبعية لأنظمة ديكتاتورية دموية و/أو مُنخرطة في عملية أنجزة نيوليبراليّة كظاهرة رأسماليّة متأخرة، تتجه ثُلة من الشباب الفلسطيني نحو وعيٍ جديد يتخطّى هذه الأحزاب. وقد كان سماح من أكثر المؤيدين لهذا الوعي وجعل من «الآداب» فضاء نضالياً له.
جبهة تستلهمُ برنامجها من فكر فانون وعبد الناصر وناجي العلي ومهدي عامل


لقائي المباشر معه وجهاً لوجه كان قبل أكثر من تسعة أعوام في اسطنبول في مؤتمر ضمّنا معاً حيث قضينا آخر يوم بعد انتهاء المؤتمر نتسكّع في شوارع اسطنبول ونتناول الطعام والحلويات التركية في أكثر من مطعم، ونقوم بزيارة عدّة أماكن أثرية، ونتناقش في أكثر من قضية سياسية وثقافية من نشاط حركة المقاطعة إلى حلّ الدولة الديمقراطيّة الواحدة إلى المقارنات التي أعقدها بين نظامَي الأبارتايد في جنوب أفريقيا ودولة إسرائيل، التي عاتبني على عدم استخدام قوسين عند كتابتها. وكم أبهرني بتواضعه واستماعه لكلّ ما كنتُ أقول، وإصراره على أن أقوم بكتابة ذلك لنشره في «الآداب». تطوّرت العلاقة لتصبح تواصلاً دائماً وتحريضاً منه على الكتابة. ولن أنسى ما حييت ردّه على رسالة خلال العدوان الإسرائيلي الهمجي على قطاع غزة في شهر أيار (مايو) من العام الجاري حيث قدّم لي «الآداب» على طبق من ذهب «لنشر ما أريد وهذا أقل ما يقدم لفلسطين» على حدّ قوله. يحضرني في هذا المقام موقفه المؤيد لما كتبت عن حالة مثقف كبير وأكاديمي كان قد قبل بمنصب سياسي في حكومة يمينية غير مرضيٍّ عنها شعبياً، مثقف يكتب بلغةٍ شعريةٍ جميلة وبطريقهٍ توحي بالنزاهة والالتزام بمصالح الشعب، ولكنه لا يتوانى عن القبول بمنصب سلطوي مقابل مكاسب آنيّة أدّت إلى سقوط أخلاقي مدوٍّ. سماح، وبشكلٍ مختلفٍ كلياً عن كثيرين من مدّعي الثقافة وما يُطلق عليهم «نشطاء وناشطات»، لم يُبدِ ولو لمرةٍ واحدةٍ إعجاباً بهذا المثقف وغيره من حمَلة المباخر ولاعقي مؤخّرات الحكومات المُتأمركة والمُطبّعة. سماح هو نقيض ذلك، فقد فكان طليعياً جداً، نقدياً لا يستسلم لإغراءات السلطة ولا للشهرة، بل كان كما باسل الأعرج وغسان كنفاني من قبله: مثقفاً مشتبكاً! هل كان سماح «ثقيل الظل» كما ادّعى أحدهم؟!
نعم كان كذلك على قلب اليمين العربي والتيّار المُهادن الذي يقبل بفتات الطعام عن مائدة منظومة الاحتلال والأبارتايد والاستعمار الاستيطاني، التيار الذي يعتبر ذلك الفتات إنجازاً وطنياً كبيراً يتوجّب التهليل له. نعم كان «ثقيل الظل» على قلب كل من لا يفهم معنى الحريّة والعدالة التي بالضرورة تعني الصدام مع منظومة القمع السائدة في هذا العالم العربي المقهور، هذا الخزّان الذي أصرّ سماح على قرع جدرانه حتى اللحظة الأخيرة من حياته.
هل هذا رثاء لسماح؟
حاشا لله، فأمثال سماح لا يقبلون الرثاء، بل الاستمرار لإكمال ما كانوا يعكفون عليه بلا كلل أو ملل برجوازي. وما كان يقوم به سماح في سياق تحرير العقل العربيّ من قيود الصهيونيّة والإمبرياليّة الأميركية والأوليغارشيّة المحليّة هو تشكيل «جبهة ثقافيّة لتحرير فلسطين». جبهة تستلهمُ برنامجها من فكر ونضالات فرانز فانون وستيف بيكو وروزا لكسمبورغ وجمال عبد الناصر وأميلكار كابرال وتشي غيفارا وغارسيا لوركا وعمر المختار وناجي العلي وإدوارد سعيد وأنطونيو غرامشي ومهدي عامل، وغيرهم من المناضلين/المفكّرين الذين استطاعوا، كما قال إيمي سيزير، أن «يحجزوا موعداً مع النصر!»