«نحن الفصائل المسلحة الثورية اللبنانية، نعلن إلى كل الذين يدينون الإرهاب، وينشطون لأجل إلغاء الاستغلال المجتمعي والحروب، أننا أعدمنا ياكوف بارسيمنتوف. إن الإعلام الإمبريالي والحكومات التي تدعم الإمبريالية، مثل الحكومة الفرنسية، يبكون على «الإرهاب». لكن من هم الإرهابيون؟ هم الذين يقتلون شاباً في الضفة الغربية لأنه يقاوم ضم وطنه إلى الكيان الإسرائيلي. هم الذين يقصفون المدنيين في الجنوب اللبناني. هم الذين يقتلون بشكل أعمى ثم يتجرّأون بوقاحة على طلب وقف إطلاق نار زائف. نحن نهاجم من ينظّمون هذه المجزرة بحق الشعب الفلسطيني. نحن نحمي حياة الأبرياء حتى لو كان الثمن أمننا الشخصي. منذ سبع سنوات، ولبنان تحت الحرب. منذ سبع سنوات، وتحت غطاء مواجهة «المتطرفين الفلسطينيين»، تدمّر الإمبريالية كل ما هو تقدمي في لبنان. هو حقنا أن ندافع عن أنفسنا. هو حقنا أن نهاجم الإمبريالية أينما وجدت، وخاصة حين تحظى بدعم الحكومات القائمة. سنواصل حربنا على الإمبريالية حتى النصر. فلتسقط الإمبريالية الأميركية ومرتزقتها من الأوروبيين. النصر أو النصر. الفصائل المسلحة الثورية اللبنانية.

3 نيسان 1982»
من باريس ومن ليون، المدينتين اللتين كانتا من أماكن تمترس المقاومة الفرنسية للاحتلال النازي، خططت «الفصائل المسلحة الثورية اللبنانية» ونفذت، بقيادة جورج عبد الله، ووفق مبدأ «وراء العدو في كل مكان» على خطى وديع حداد، الكثير من العمليات النضالية في الخارج. بعد سنتين على هذا البيان الذي يمثّل تبنّي الفصائل لإحدى عمليات إتمام العدالة، ألقي القبض على جورج عبد الله بتهمة «حيازة أوراق ثبوتية مزيّفة». كان هذا الاتهام حجة السلطات الفرنسية لاعتقاله. وفي حقيقة الأمر لو راجعنا مسيرة جورج النضالية، نجد أن انتماءه وخياراته تعدّت محيطها المحلي بالفعل، رافدة من كلّ حقّ إنساني مشروع، وممتزجة بالقضايا الجوهرية وأشكال الكفاح والنشاط، لتصبّ في هوية ما انفكّت تجدد أشكال مقاومتها، منذ ما يزيد على 30 عاماً، حتّى يومنا هذا.
جورج عبد الله المولود عام 1951 في القبيات (عكار، شمال لبنان)، بدأ مسيرته بالتخرج من «دار المعلمين»، على بعد سنوات من اندلاع الحرب اللبنانية التي وجد نفسه فيها شاباً في مقتبل العمر، مبشّرة بحياة غير اعتيادية منذ البداية. في ضيعة صغيرة نائية تقع في عكار، عمل أستاذ مدرسة وتبلور وعيه الطبقي من خلال تفاعله المباشر مع الظروف المحاطة. هذا الوعي كان مشحوناً بإرهاصات سياسية وتاريخية بدأت مع عبد الناصر وانصبّت في الثورة الفلسطينية. بدأ عمله النضالي الفعلي بانتسابه إلى «الحزب القومي السوري الاجتماعي»، ثم ما لبث أن انتقل إلى «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» وأصبح ممثلاً لها في المخيمات والناطق باسمها. ربما ليس الأمر بالاستثنائي أو الخارق للعادة، لكن ما كان مفترق طرق فعلياً في قدر جورج، هو تأسيس وقيادة «الفصائل المسلحة الثورية اللبنانية» (عام ١٩٧٩) التي تبنّت فكراً مستقى من «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين». وبعد المعارك مع الإسرائيلي عام ١٩٧٨، التي شارك فيها جورج عبد الله وأصيب، رأت هذه «الفصائل» أن المهمة الأساسية هي ضرب المركز وتحويل المدفعية بالكامل إلى إسرائيل، كون الحرب الأهلية سقطت في مستنقعٍ نتن مليء بالوحل الطائفي. على هذا الشكل، كان شعارهم «وراء العدو في كل مكان، في المكان الذي نقرره ونحدد زمانه»، في حين كان، كل الوقت، «هو (العدو) من يقرر أرض المعركة سابقاً...» بهذه الشعارات المقتبسة من بيانات تبنّي نشاطات الفصائل، كان يتمثل الخيار السياسي الأخير والأبقى لجورج عبد الله، حتى اعتقاله عام 1984.
في حقبة اتسمت باتساع دائرة النضال وتعدد المشارب الفكرية لها، وبلوغ النضال الثوري أوجه في مقارعة العدو، كان مبرراً من جورج هذا التنقل في الخيارات السياسية، حتى إيجاد الشكل الأنسب له. في بلد يتقاطع فيه الحدث داخلياً وخارجياً، كان لا بد من مساءلة الفكرة التي تقتضي النضال الأنجح. من منطلق فكري ماركسي ما بعد كولونيالي، رأت «الفصائل الثورية المسلحة اللبنانية» أن الطبقة البورجوازية المهيمنة في الداخل ترعاها وتحميها أنظمة خارجية حليفة لها. لذلك استخلصوا أن الهم الوطني يقود إلى الصراع الطبقي ويحدده، فكان ضرب العدو، وخصوصاً في عقر داره، هو الأولوية. كان هذا هو الفكر الذي تسلحت به الفصائل في عملياتها كافة. هذا المناخ جذب المتمتعين براديكالية يسارية وشراسة ثورية كافية، للإقدام على تدشين عمليات نوعية جديدة، يتّسم معظمها بالتخطيط المخفي وعدم الاهتمام بالأضواء. جميعهم تحركوا تحت أسماء حركية، معظمهم عرف بها (غسان، ريما...) وجورج عبد الله نعرفه اليوم باسمه الحقيقي فحسب، عارياً هكذا كما هو، هذا الاسم الذي حافظ على نفسه، وتوسّعت القضية التي تفيد بضرورة نيله العدالة والحرية، اللتين لم تنفكّا عنه أكان في السجن أم خارجه. لأن جورج عبد الله لم يكن خارقاً، بطلاً إعجازياً أو أسطوريّاً، كان خياره سياسياً كذلك الأمر وإنسانياً، حيث لا خيار يستطيع أن يجد متنفّسه في سجن يقبع في المغترب أساساً. لقد كان الخيار الذي لا تنازل عنه بالاعتذار أو المساومة. تشييد قلعة داخل السجن. إنها أبعد ما تكون عن الفكرة العبثية على الأقل إذا وضعنا في الاعتبار أن الموقف الفعلي كان: التخلّي عن الشخصيّة وتجاربها التي بنتها، أي التخلي عن صدقها مقابل الذاتيّ والفردي، أو المواجهة واللامساومة حتى أجلٍ مسمّى. يصبح الرجل في هكذا خيار، هو القضية نفسها، لا اختلاف بينهما إلا في الحيثيات، ولا يعني ذلك الانقطاع عن الحياة. فقد كانت قضية جورج الأولى، في باله لم تتزحزح مثله. تابع من داخل سجنه الأحداث التي تجري في فلسطين ولبنان خصوصاً، داعماً كتابة وتسجيلاً وموقفاً، مشاركاً بالوسائل التي قدر على تحصيلها، لم يمسسه نسيان أو خذلان. فهو كالأسرى الفلسطينيين، ما زال يفكر في وسائل مقاومته، مبتدعاً أشكالها، تلك التي لا تنتفي ما دامت المسافة بين الفرد وقضيته واحدة واضحة لا تتغير.
هذا التكريس الكامل لأولوية القضية على الحياة الفردية، جعل جورج ورفاقه غير مهتمّين بضوضاء الكاميرات وأضوائها، مولين للفعل الخطابَ الحقيقي. وإن كان لا بد من كلام، فيكون ذلك على شكل بيان يعكس وضوح الرؤية، بعد تنفيذ العمليات بالطبع، ممزوجاً بتهكم الأسلوب أحياناً. إن كان دالّاً مباشراً على شيء أكيد، فهو على تلقائية الفعل، أي كأنه تحصيل حاصل قد يبدو لا أهمية كبرى لتبنّيه حتى. كانوا يفعلون أكثر مما يقولون بكثير. اليوم جورج لا يزال في السجن، بعدما انتهت محكوميته التي تصل إلى 15 سنة (المؤبد في فرنسا). يكمل عيد ميلاده الخامس والثلاثين، بعمر طال السبعين، ليبقى الحبس بالنسبة إليه مساحة حرية متبلورة، بهمّ إنساني لا يتبدّل ولا يحيد، تجاه الإنسان عموماً والهمّ الفلسطيني خصوصاً، إذ يرسل «فويسات» بصوته وشيئاً من كلماته المكتوبة كل حينٍ، مذكّراً إيّانا والعالم الخارجي، بالصوت الذي لا ينتهي.