على صعيد الإخراج، يبدأ العرض بتكريس قداسة الفضاء المسرحي. يخلع كلٌّ من فلاديمير وعلاء نعليهما، على حافتي الخشبة، كأنهما يحاولان المحافظة على هول قصص الموت التي ستُحكى. هكذا كانت البدايات، بياض ناصع، ستلطّخه الألوان في ما بعد. بعد سرد تجربة علاء المقتضبة، يبدأ سرد تجارب الجمهور في يوم الكارثة الفظيعة. لا معنى لحبكة القصة، ومن غير المهم، التماهي مع مدوّنها. المهم هو التأثير الانفعالي الذي يخلّفه وقعها. لم يكن علاء ميناوي يقوم بوظيفة «الحكواتي». لذا، جاء دوره في سرد القصص، بطريقة غير انفعالية، بعيدة عن التعاطف. كان أداء علاء بعيداً عن التصنع والتكلّف الفني. خطوة فعالة، لعدم تحقيق التطهير. يغيب صوته عن الجمهور، في خطوة مقصودة، ويبقى في أذني العازف والرسام، لنستطيع متابعة التجارب، لحظوياً، وارتجالياً، ممّا يحفّز حواس السمع، والبصر، بشكل فعّال.
هكذا تنوّع السرد، بين لغة، ورسم، وعزف، بعيداً عن التعاطف والتماهي. الارتباط بالماضي، ليس له قيمة، الماضي هو ميت بحسب مؤسس الحركة المستقبليّة الإيطالي فليپو مارتيني، الذي يقول بأن «المدينة الميتة هي المدينة التي اعتادت أن تطرح مواضيعها وتبني حياتها تبعاً للاستعطاف والمشاعر». لم يكن الاستعطاف هو الهدف، وإنما اللحظات الفنيّة وما يرافقها من انطباعات وانعكاسات في نفوس الحاضرين.
تنوّع السرد، بين لغة، ورسم، وعزف، بعيداً عن التعاطف والتماهي
أتت اللعبة الإخراجية في إطار محكم، متنوّع، غير رتيب. «ميزانسين» (Mise en scène) يملأ الفضاء المسرحي، تنقّلات متنوعة، على مستوى الحركة، بين الشخصيّتين. كان أحمد عامر يعتلي منصة خلف الجمهور، وفلاديمير وعلاء يتحرّكان عل الخشبة، بسلاسة، وهدوء ثقيل. هدم المخرج الجدار الرابع مع الجمهور مرات عدة، حتى إنّه في النهاية، تحول العرض إلى ما يُشبه الاحتجاج على النظام السياسي القائم، من قبل الجمهور، الذي بات في عداد المشاركين في العرض، من خلال مشاركة بعض التعابير الكلامية مباشرةً أمام الجميع، ليتم تحويلها فنيّاً.
حافظ الفنان أحمد عامر على الأشكال المبعثرة في الرسومات، وتداخل الدوائر. دوامة الموت تلاحق كل سكّان هذه المدينة، هكذا انطبعت الصورة في أذهان المتفرّجين. تتبعثر الألوان، وتتنوع. لم يكن اللون الأحمر هو المسيطر، ولا حتى الأسود. خرج أحمد من كليشيهات الألوان ورمزيتها ودلالاتها. اختتم كل تجربة، بكتابة اسم المرسل. حمل العرض صخباً على مستوى الرسم. كرّست الألوان شكل المدينة الجديدة، الميتة، التي ارتقت فيها الجثث، نحو عالم سرمدي لا محالة.
العنصر الفني الأقوى في العرض، كان العزف. أعاد فلاديمير كورومليان إحياء الموت فينا، ووضعنا أمام مصيرنا المحتم (الموت). ألحان جنائزية، حزينة، فتّتت ذواتنا. استحضرت معزوفاته مقولة فرانز كافكا في ذهننا: «أولى علامات الفهم، هي الرغبة بالموت». انصهرت ألحانُه في قلوبنا. صار الجمهور للحظة ما، أمام الموت. لقد حلق كورومليان فينا بعيداً، ورقصت أرواحنا، رقصات الموت على ألحانه.
«يوم لم ينته» مزيج فني ممسرح، يمكن الثناء عليه، لقدرته على خلق الجمال، وإعادة توثيق التجارب التي رافقت 4 آب المشؤوم، بطريقة ارتجالية، وتفاعلية. خمس وخمسون دقيقة، حبست أنفاس المتفرجين، السكان، والشاهدين، على هول الفاجعة. يمكننا استحضار مفهوم الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون، بـ «أن الحاضر لا ينتج شيئاً، إنه فقط وليد الماضي، وهو نتيجة كل ما جرى في الماضي». من المهم إعادة إحياء فاجعة 4 آب، وترسيخها في كل الأوقات، طالما أنها بعيدة عن الخطاب المباشر، والاستعطاف.