من كان يتابع مقالات جورج ناصيف في كبريات الصحف اللبنانية، وهي المكتوبة برشاقة الموهوب، وأناقة المخضرم، ودقة الحريص، يسأل نفسه: هل أنا أمام صحافي دخل عالم الكتابة من باب النضال، أم مناضل دفعه نضاله إلى أن يدقّ أبواب الكتابة ويحمل رايات القلم؟ بل كنّا جميعاً ندرك أن كتابات جورج ناصيف هي من النوع «الثقيل» الذي لا يتحمّله العديد من صحفِنا، لأن فيها من الصدق والدقة والجرأة والشجاعة ما لا يتحمّله الكثير من القيّمين على الأمور في بلادنا. كنّا ننتظر مقالاته وتحقيقاته التي تصدّرت الصفحات الأولى في كبريات الصحف اللبنانية، لأن فيها نكهة خاصة، فلا موضوعية المهنة أفقدتها حرارة الالتزام بقضايا شعبه، ولا حرارة هذا الالتزام طغت على دقّته المهنية، وهو ما كان يزعج «البعض» الذي لم يكن يحتمل جرأة جورج ولكنه لم يكن يحتمل دقّته وموضوعيته أيضاً. من يعود إلى ما كان يكتبه جورج في ثمانينات وتسعينات القرن الفائت، يكتشف كم كان هذا اليساري مدركاً لما ستؤول إليه الأمور في البلاد محذّراً من مخاطر الاستسلام لمخطط «السلب والنهب» المتوحّش الذي يتعرّض له شعب لبنان، تماماً كما كان يحذّر من قوى الغلو والتطرّف والتوحّش التي حاولت افتراس بلادنا ومعها العالم كله. لبنانية جورج ناصيف لم تبعده عن عروبته، وهو ابن بيروت التي عُرفت يوماً بـ«أم الشرائع» لتُعرف دوماً بـ «أمّ القضايا»، وطبعاً فلسطين هي القضية الأمّ على المستوى العربي والعالمي. و«يسارية» جورج ناصيف ـــ وهو علَمٌ من أعلام الحركة الوطنية اللبنانية، بدأ حياته الصحافية مع رفيقه الآخر الصديق الحبيب الراحل جوزف سماحة على صفحة «الوطن» الناطقة باسم الحركة يومها ـــ لم تبعده يوماً عن الانفتاح على تيارات وعقائد أخرى، بل كان يدرك أنّ انتصار القضية الوطنية، كما الاجتماعية، مرهون بالقدرة على حشد أوسع الطاقات في سبيلها. وحين يُذكر اسم جورج ناصيف بين كتّاب لبنان وصحافيّيه، يقترن اسمه بالنقاء والصفاء والعفّة والصدق المهني، ما يجعله نموذجاً يُقتدى به من كلّ صاحب قلم يدرك أن للقلم كرامته وعنفوانه والتزامه. رحم الله الأخ والصديق والرفيق أبو حسام، وكل أبناء جيله الذي حمل رسالة كبرى لم تزل حيّة رغم كل شيء.

* رئيس المركز العربي الدولي للتواصل والتضامن

ووري الصحافي جورج ناصيف في الثرى في مدافن العائلة أمس في وطى المصيطبة في بيروت، بعد صراع مع المرض أقعده في السنوات الأخيرة قبل أن يستسلم عن 72 عاماً. الراحل يعدّ شاهداً على حقبة أساسية من تاريخ لبنان، هو الذي بدأ مسيرته الإعلامية في جريدة «لسان الحال»، قبل أن ينتقل إلى جريدة «السفير» عند تأسيسها عام 1974. ومنذ منتصف الثمانينات لغاية 2008، عمل في جريدة «النهار» مسؤولاً عن صفحة «قضايا»، ثم في رئاسة قسم المحلّيات، مواصلاً كتابة مقالاته السياسية وعُرف بمواقفه التقدمية والعروبية. كما عمل في عدد من الصحف الخليجية من بينها «البيان» الإماراتية، إلى جانب عمله أستاذاً محاضراً في عدد من الجامعات من بينها «البلمند». وقد نعى نقيب محرّري الصحافة اللبنانية جوزف القصيفي جورج ناصيف «الذي عرفته الصحافة اللبنانية كاتباً وإعلامياً ومثقفاً من الطراز الرفيع، وناشطاً في «جمعية الشبيبة الأرثوذكسية» و«مجلس كنائس الشرق الأوسط». وكانت صحف «السفير» و«الكفاح العربي» و«النهار»، بالإضافة إلى عدد من الصحف الخليجية، مسرحاً لقلمه الرشيق الديباجة، الشيق الأسلوب، المطلّ بعمق على قضايا الإنسان، بفكره التقدمي وإيمانه المستقيم بحوار الحضارات وتفاعلها».