بحكمِ التغيّرات التي طرأت على المُجتمعات والزمن ككل بفعل ما أحدثَتْه الثورة التكنولوجية على الإنسان والوقت، إذ أصبح عبداً للآلة من دون أن يعي قيمة الوقت، جاءتْ رواية «البراني» الصادرة عن «دار الآداب» (2021) للروائي الموريتاني أحمد ولد إسلم. إنّها رواية علمية كونها تتناول الخيال العلمي، وهذا ما نحن بأمس الحاجة إليه، فالرواية تندرج ضمن ما أسمَاه روجر لكهيريست «أدب المُجتمعات المشبعة تكنولوجياً» أي أنه من خلال الخيال، أراد كاتب «البراني» أن يتطرّق إلى الوقت وكيف يفلت منّا من دون أن ننتبه إليه، وهذا ما أسماه إسحاق أزيموف بفوبيا التكنولوجيا، إذ يقول الرواي في «البراني»: «حين رأيتُ الحياة اللاهثة في فيوتسيتي، استغربتُ كيف ستنظرُ الأجيال اللاحقة إلينا، فلو قيل لأحدِ أفراد الجيل الثالث، ممّن سيولَدون هُنا، أنّ جلسة الشاي هذه تحتاج خمساً وأربعين دقيقة لاعتبرَها عقوبة» وأيضاً: «الوقت لا يغيّر سُرعته لا يبطأ ولا يسرع». ومن هُنا تتّضح لنا فكرة الرواية التي اختار لها الكاتب عدّة أمكنة لتكون شاهداً على تعاقب أحداث روايته في فيوتسيتي (مدينة مخيالية أعتقد)، مستشفى موسكو ، المزرعة. ومن خلال هذه الأمكنة التي تختلف سردياً من ناحية التعاطي معها، أراد أن يروي للقارئ عن النظام المسمى : pay yourselfوكيف يمكن للآلة أن تعوّض الإنسان بل تتجاوز ذلك إلى أنّها تستعبده. لفتت انتباهي هذه الفقرة التي لها مدلولها: «لو علِم أهل النعمة أنّ اللبن الذي يشربون يحلبه روبوت».
وأيضاً حين تحدّث عن الأحداث في موريتانيا وكيف تشكّل ولادة عجل حدثاً عظيماً. وأيضاً الكلمات الطافحة بالسرد العجائبي الذي يحتفي بالبيئة الموريتانية وبكلّ ما تحمله هذه البيئة من موروثات حتى اسماء شخوصها كـ : مختور، مايخرص، حويبي، كلها أسماء تخصّ موريتانيا.
في ما يتعلق بالعنوان، فهو يشبه رواية «الغريب» لألبير كامو، فـ «البراني» هو «الغريب»، كما أنها تتناول موضوعاً آخر هو الغوص في خبايا ودهاليز المجتمعات التي تنخرها الرذيلة من الداخل، لكنها تحاول أن تبدو وكأنها سليمة معافاة.
جاءت «البراني» من خلال الخيال العلمي لتسائل أدبياً الإنسان وقته وعمره في ما أفناه، بل كانت نقداً غير صريح لكلّ الأعطاب التي تغرق فيها المجتمعات، إضافة إلى الوقت.
ولا تخلو الرواية من السرد الجميل. لكن لم يعجبني استخدامه للكلشيهات الوارادة دائماً في الأدب عند التحدث عن الغزل والسكرتيرة وهو في أوج تحدثه عن الاغتيالات وغيرها.
في الصفحة 121 أي ونحن على مشارف نهاية الرواية، يتضح لنا أن «البراني{ هو نفسه الربوت: «تأكد مختور أن «البراني» هو الروبوت الصغير الذي رآه في الصورة». وأيضاً في: «نظرياً إنه ربوت آلي يرعى مزرعتي في ضواحي مدينة النعمة في أقصى الشرق الموريتاني، ولكن عمليّاً ليس ذلك إلا مظهراً لخوارزمية ذكاء اصطناعي قادرة على التجول في كلّ الشبكات العالمية من دون استئذان، ولا يمكن تعقبها بلغة لا يعرفها غيري».
كما تجدر الإشارة إلى أنّ للنص هويته من خلال احتفائه من بداية النص حتى نهايته بالموسيقى وما تمثله آلة «التدينيت» للرجل الموريتاني، خاصة أن الروائي أحمد ولد إسلام أهدى الرواية للفنان الموريتاني الكبير الشيخ سيد أحمد البكاي ولد عوه ولبرنامج «بلاغات الشعبية» كما ورد في الإهداء، فالنص منذ بدايته إلى نهايته يحتفي بالموسيقى وبالهوية الموريتانية: «تعلم مختور في صباه أساسيات اللغة العربية وحفظ القرآن ومتون الفقه المالكي كما درجت العادة لمن هم في عمره، ولكنه زاد عليها شغفه بالموسيقى الموريتانية، وهو يعززه بدوام الاستماع إلى أشرطة آلة التدينيت كالموسيقى الموريتانية بحضور مختور، وكان سعيداً باكتشافه هذا الشغف، فالموسيقى بالنسبة لحوبيب كانت الوسيلة التي حافظت على هويته من الامحاء في الثقافة الإفريقية». من خلال موضوعها ومن خلال الخيال العلمي، تؤسس هذه الرواية لتعابير جديدة كما دعا إليها غيرنسباك، إذ يقول: أسس تعبيرات جديدة في كتابات الخيال العلمي، وخاصّة أن موضوعها الأساس هو الرقمنة وتأثيرها. فبين زمن يمجد للإنترنت والتكنولوجيا، وزمن لا وجود فيه لما يسمى تكنولوجيا، كان للبراني كلمتها.