اقتحم عبد الرحمن منيف (29 مايو 1933- 24 يناير 2004) حقل الكتابة الروائية متأخّراً. أتى إلى عالم التخييل وهو يحمل على كتفيه النحيلتين خيبات السياسة بوصفها خديعة كبرى، وعطباً غير قابل للإصلاح. كانت روايته الأولى «الأشجار واغتيال مرزوق» (1973) بمثابة مفاجأة، لا تقل في ثقل رنينها عن رواية «موسم الهجرة إلى الشمال» للطيب صالح، لجهة أنماط السرد وتمثلات الذات العربية المقموعة، مروراً بأزمة المثقف العربي، وتحوّلات المكان، وصولاً إلى الهزيمة المحقّقة، وتلاشي معنى الوطن كمحصلة نهائية للقمع، والعسف السلطوي، والخيبة العاطفية. رحلة تيه في قطار بلا محطة نهائية، ومثقف خائب بأحلام مجهضة (منصور عبد السلام)، وإذا بجواز السفر يتحوّل إلى «جواز قهر». هذه الثيمات التي ستتسرب إلى أعماله القادمة بمسالك مختلفة، وبعدسة مكبّرة تعمل على تشريح ألم الكائن الشرقي المحمول على رافعة الشجن التاريخي للمكان، لا ضوء في نفق هذا الليل الطويل للخزي. سنقرأ «شرق المتوسط» (1975)، باعتبارها إنجيلاً للتعذيب البشري في السجون الصحراوية العربية. سنعيش الكابوس كما لو أننا في ذلك القفص المكشوف فوق الرمال الملتهبة وغزو العقارب السامّة، تحت لهيب الشمس الحارقة، وسيغلق القوس لاحقاً في ما يخص أحوال التعذيب وتطور أدواته في «الآن هنا أو شرق المتوسط مرّة أخرى» (1991). يبتكر عبد الرحمن منيف في كلّ رواياته أمكنة افتراضية بأسماء وهمية، بقصد توزيع غنائم الخذلان والحيف البشري على كل الخرائط العربية أو على «عالم بلا خرائط» وفقاً لعنوان روايته المشتركة مع جبرا إبراهيم جبرا، وذلك من باب التذكّر لا النسيان. من ضفة ثانية، سيراود الفضاء الصحراوي في روايته «النهايات» التي كانت من أوائل الروايات العربية التي رصدت مجاهل الصحراء، قبل أن يضيئها إبراهيم الكوني بكشّاف آخر، عملاً وراء آخر. في هذه الرواية، نتعرّف إلى بنية النظام البدوي والصراع مع الرمل وطرائد الصيد بمشهديات إيقاعية آسرة، وفتنة سردية، تعوّض خسائر المكان إزاء الجفاف وغضب الطبيعة، والموت، حين تثور عواصف الرمل، فتبتلع قنّاص القبيلة وتدفنه مع كلبه تحت الرمال. هكذا يطيح عبد الرحمن منيف فكرة الرواية المدينية، مكتفياً بفضاء مفتوح على الصمت والريبة والخوف، هو البدوي المرتحل قسراً من بلدٍ إلى آخر والذي عرف عن كثب إغواءات الرمل وأعراف الصحراء، مؤرّخاً يستبصر ما سيأتي من أهوال، بالاتكاء على خطاب لغوي مهجّن، هو مزيج من فصحى ولهجة بدوية بقصد تأصيل سرديات محليّة للمكان، تستأنس بالموروث الحكائي حيناً، وانفجارات اللحظة طوراً. إذ لا يتردّد باستدعاء حكايات من التراث السردي القديم في سمر ليالي صحراء «النهايات»، فيما يغذّي طبقات الحوار بما يشبهها في البيئة البدوية. عالم مأتمي ومراثٍ مفتوحة على خرائط حائرة ستتشكل خطوطها على مهل في «مدن الملح» مغامرته السردية الكبرى، وملحمة الصحراء المقبلة على الخراب.
ابتكر أمكنة افتراضية بأسماء وهمية في رواياته، بقصد توزيع غنائم الخذلان والحيف البشري على الخرائط العربية

كأن «الأشجار واغتيال مرزوق» مجرد تمرينات أولية لخوض الأسئلة الشائكة وتفكيك شيفراتها. كان نجيب محفوظ قد أسس للرواية النهرية بثلاثيته المعروفة، لكن عبد الرحمن منيف سيتجاسر أكثر، في استدعاء طبقات الحكي، وينجز «خماسية» في تأريخ لعنة النفط، وانعكاسه على أخلاقيات المدن الطارئة التي لا تتكئ على تاريخ حضري متراكم. ربما أسرف الراوي في تدوين التحوّلات والتغيّرات التي طرأت على هذا المكان، إذ سيبقى القارئ أسير الأجزاء الأولى لجهة الدهشة وفكاهة البداوة الغارقة في الحفاظ على أعرافها في مواجهة كولونيالية الشركات الأجنبية، والصراع القبلي على الحكم. على الأرجح، فقد تماهى المؤرخ وخبير النفط مع الروائي بوصفه صاحب مشروع متكامل، إذ ارتأى تذويب أنماط السرد بالوقائع التاريخية، في هجاء علني لهذه المدن البديلة للحواضر العربية الراسخة: «قصدت بمدن الملح، المدن التي نشأت في برهة من الزمن بشكل غير طبيعي واستثنائي. بمعنى ليست نتيجة تراكم تاريخي طويل أدى إلى قيامها ونموها واتساعها، إنما هي عبارة عن نوع من الانفجارات نتيجة الثروة الطارئة. هذه الثروة (النفط) أدت إلى قيام مدن متضخمة أصبحت مثل بالونات يمكن أن تنفجر، أن تنتهي، بمجرد أن يلمسها شيء حادّ» يقول. لن ننسى شخصية «متعب الهذال» البدوي الذي رفض سلوكيات الأميركان، فاختفى في الصحراء احتجاجاً على هذه القيم الوافدة التي زعزعت طمأنينة المكان. كان على متعب الهذال أن يتوارى إذاً، كي لا يلوّث روحه بما لا يشبهها، لكنه سيظهر كطيف أو كشبح يراقب ما حدث ويحدث في «وادي العيون» من ارتكابات معادية، في نسخة تراجيدية/ شكسبيرية موازية من طيف والد هاملت. تبع متعب الهذال حدسه أولاً، ريبته البدوية، خشيته من الغرباء، إذ رأى باكراً أن النفط لعنة ومصيبة وفخّ، ما جعله يدعو ولده إلى زراعة نخلة وعرقٍ أخضر كي لا يباغت الجفاف أرض النفط، لكن «حرّان» المدينة التي أسّستها الشركة الأميركية ستزحف على ما حولها وتطيح بما قبلها.
الآن، بنظرة استرجاعية، سنكتشف، أن تأريخ «مدن الملح» كان صائباً وضرورياً لهذه الجدارية السردية المبهرة، فالصراعات التي وردت في المتن الروائي كحالات تخييلية، صارت وقائع ملموسة، خرجت من ردهات القصور المغلقة على أسوارها إلى العلن. تكمن هنا إذاً، أهمية الجغرافيا المتخيّلة واستيعاب أرواح شخصياتها ومصائرها، بدون رهانات إيديولوجية جاهزة تهيمن على سلوكياتها. فههنا يعمل الروائي وحسب، بعيداً عن سيرة المؤلف وتحوّلاته الإيديولوجية بين أحزاب اليسار، إذ ينظّف حقوله السردية من رهاناته الفكرية لمصلحة العمارة الروائية في المقام الأول، من دون أن يتخلى عن تحريض شخوصه على مواقف وتطلعات مختلفة، في ما يسميه فيصل درّاج «علم جمال المضطهدين». هذا المسح الطوبوغرافي لتضاريس شبه الجزيرة العربية تقابله وتشتبك معه قراءة سوسيولوجية للمجتمع القبلي المتحوّل الذي فقد أصالته البدوية من جهة، ولم يؤثث مدنية وحداثة من جهة ثانية، فالملح لا ينخرّ المدن وحدها، وإنما يتسرّب إلى أرواح بشرها.
في مدوّنة أخرى هي ثلاثية «أرض السواد» (1999)، سيستعيد الروائي/ المؤرخ تاريخ العراق في القرن التاسع عشر والمؤامرات التي حيكت في/ وعلى هذه البلاد، راسماً بدقة طبائع الشخصية العراقية في قسوتها وحنانها، في شغفها وأحزانها، بالإضافة إلى موروث الحب والغضب والطغيان، والملاحم السومرية والأكادية والبابلية، وخيانة الوصايا، ما أدى إلى الخراب والفوضى وانطفاء النشيد. كأن ما حدث أمس حدث لاحقاً بالعنف نفسه، معوّلاً، كما في «مدن الملح» على الجموع، بإعادة الاعتبار إلى البشر المهمّشين، وكتابة تاريخهم المهمل. وفي سكةٍ ثالثة، سيقارب الموضوع الفلسطيني في روايته المشتركة مع جبرا إبراهيم جبرا «عالم بلا خرائط» في مواجهة صريحة مع تاريخ الهزائم، فالهزيمة ليست هي الهدنة وفقاً للمرجعيات المراوغة. رواية تنشئ فلسطين مشتهاة، بعيداً عن الخديعة الرسمية في تأريخ الاحتلال والاغتصاب وتواطؤ الأنظمة. هذا التنوّع في الجغرافيات الحكائية يأتي ترجيعاً لسيرة الروائي نفسه، وترحاله القسري بين معظم البلدان العربية، وعلى نحو أدق، بين المنافي: من عمّان إلى بغداد، إلى القاهرة، إلى بلغراد وباريس، وانتهاء بدمشق التي دُفن فيها. روائي وجد نفسه محروماً من جنسية بلاده (السعودية)، فانتمى إلى كل الجنسيات العربية. لم يكتفِ منيف بالكتابة الروائية، إنما ذهب إلى حقول كتابية أخرى، فعمل على أرشفة سيرة المدن، ومعنى المنفى، و«لوعة الغياب»، بالإضافة إلى عنايته بالتشكيل. مراسلاته مع مروان قصاب باشي تؤكد على شغفه باللون وتوقه للرسم بدلاً من الكتابة، مثلما سيصوغ الأخير تخطيطات مائية لأغلفة كتب الروائي، وبورتريهاً له، وإذا بانكسارات وجهه تنفتح على ما يشبه صحراء بالبني المحروق والأحمر الداكن، صحراء موشومة بالألغاز.